الجمعة، 7 أكتوبر 2016

من أَقوال امير المؤمنين عليٍِّ عليهِ السلام حول النساء

                                  من أَقوال امير المؤمنين عليٍِّ عليهِ السلام حول النساء






لسلامُ عليكُم ورحمة الله وبرَكاتُه
الغيرة


تجلى الغيرة في ابسط اشكالها عند المرأة في حب تقليدها لغيرها من النساء، و في محاوله امتلاك كل شى ء تملكه رفيقاتها. و هو مرض سار، مرده الى حب الذات و العجب بها. 
و يتداخل مفهوم الغيرة بهذا المعنى مع مفهوم الحسد، و هو شائع بين الرجال و بين النساء. و من امثلته غيره هابيل من اخيه قابيل، حين حسده وادعى انه افضل منه فلما احتكما الى الله فتقبل الله قربان هابيل و لم يتقبل قربان قابيل، زادت غيره قابيل، حتى سولت له قتل اخيه، فقتله. 
و من اخطر اشكال الغيرة ان تحب امراتان رجلا واحدا، فتتخاصمان للحصول عليه. و هو من الامور الخطره، التي تسى ء الى الحياه الزوجيه و تجعلها جحيما لايطاق. و يحدث الامر نفسه عندما يتزوج الرجل اثنتين، فتغار احداهما من الاخرى و تكيد لها، و هو محرم شرعا. و هو ما عبر عنه الامام بقوله: 
'غيره المرأة كفر، و غيره الرجل ايمان'. 
و يقصد بغيره الرجل، غيرته على عرضه و حريمه و حفظهم من الشرور و الاعتداء. 
و قد اوجب الله سبحانه على الرجل العدل بين نسائه، حتى لايكون للمرأة عذر في غيرتها. 



الغدر 

تتميز المرأة العاطفيه بسرعه التقلب و عدم الثبات على راى، فهى تحب اليوم و تكره غدا، و تحب شخصا ثم تنقلب الى غيره. 
و لذلك قيل في المثل: 'و نساوهم كهوائهم'. 
و قد وصمها المتنبى بالغدر و عدم الوفاء بالعهد حيث قال: 
اذا غدرت حسناء وقت بعهدها++ 
فمن عهدها ان لايدوم لها عهد 
و هذه الصفات ابعد ما تكون عن المرأة المومنه الملتزمه. اما المرأة الطائشه التي تتبع هواها و تنساق وراء رغباتها، فهى تتخبط في غيها و بغيها، و لا ترى اى ضيرفى نكث العهد، و عدم الوفاء بالوعد، 
و الغدر بصاحبها عن قصد و عمد. 
اما الرجل فهو اكثر اندفاعا الى العمل بما يعتقد، و الثبات على عقيده معينه، و الدفاع عنها بوعى و تصميم، و الوفاء بعهده مهما كلفه ذلك. فاذا وعد اعتبر وعده دينا في عنقه، مصداقا للقول الماثور: 'وعد الحر دين'. و من اشهر الامثله على ذلك وفاء السموءل لمن اودع عنده عددا من الدروع، ففضل ذبح ابنه دون ان يسلمها لغير اصحابها. 

هم المرأة 

فاذا تركت المرأة عقلها جانبا، و القت اوامر الشرع وراء ظهرها، لم يعد لها من هم في الحياه غير زينتها و زخارفها، و الانسياق وراء شهواتها. فقال الامام (ع): 'و ان النساء همهن زينه الحياه الدنيا و الفساد فيها'. 
المرأة الفاسده شر كلها 
و عندها تصبح المرأة شرا كلها، على الرغم من حاجه الرجل و الوجود البشرى اليها. فقال (ع): 'المرأة شر كلها، و شر ما فيها انه لابد منها'. 
غيره المرأة و غيرها الرجل 
و المرأة بدافع غيرتها على زوجها قد تنساق وراء عاطفتها، فتتصور ان زوجها يمكن ان يتزوج عليها، فخير سبيل لتتفرد به هو ان تفقره او تمنعه من مغادره الدار، او تصمه بالريبه في كل نظره ينظرها، مما يسبب لها فساد حياتها الزوجيه و يعود عليها بالضرر و السوء. ولذلك نهاها الامام (ع) عن هذه الغيرة المحرمه، و اعتبرها كفرا بالنعمه التي انعمها الله عليها، 
[و اذا كانت الغيرة تصل الى حد تنسى معه الله سبحانه بل و تتحدى معها اوامره تعالى و نواهيه بشكل علنى و سافر و عن سابق توجه و اطلاع، فانها تعنى انها في حاله غيرتها و ثورتها لاتعترف بسلطان الله سبحانه و لا تخضع لاوامره و زواجره... و لعل هذا اقرب الى ما يرمى اليه الإمام علي (ع) من كلمته الماثوره: 'غيره المرأة كفر'].
فقال (ع): 'غيره المرأة كفر'. و هذه الغيرة مختلفه جدا عن غيره الرجل التي تعنى الحفاظ على زوجته و اهله ضد اى اعتداء خارجى او انتهاك لكرامتهم، فهذا واجب على كل رجل، و هو جزء من الايمان، فقال (ع): 'و غيره الرجل ايمان'. 
غدر المرأة 
و في الحكمه الرابعه يبين الامام (ع) جانبا من نفسيه المرأة الشريره، التي دابها ان تغدر بزوجها، في حين تظهر له حسن معاشرتها و تصرفاتها، فهى كالعقرب التي تلدغ الانسان بعد ان تعطيه الثقه و الامان، فقال (ع): 'المرأة عقرب حلوه اللبسه' 
[و لعل الاقرب الى ما يرمى اليه اميرالمومنين (ع) من كلمته هذه، هو ان المرأة كثيرا ماتوذى الرجل عن عمد او من غير عمد، ولكنها و بملاحظه وضعها العاطفى و الانثوى المثير له تجعل الرجل ليس فقط لايجد الم لسبتها و انما هو يلتذ بها ايضا].
خيار خصال النساء 


و نتيجه التباين في خصال المرأة و في وظيفتها عن الرجل، تعتبر بعض الخصال السيئه في الرجل، خصالا جيده في المرأة. و يعد الامام (ع) ثلاثا من هذه الخصال و هى: الزهو و الجبن و البخل. فيقول (ع): "خيار خصال النساء، شرار خصال الرجال: 'الزهو و الجبن و البخل. فاذا كانت المرأة مزهوه "اى فخوره بنفسها" لم تمكن من نفسها. و اذا كانت بخيله حفظت مالها و مال بعلها. و اذا كانت جبانه فرقت "اى فزعت" من كل شى ء يعرض لها" "الحكمه رقم 234" 
فالمرأة التي لاتستهين بنفسها يدفعها اعجابها بنفسها الى ان لا تمكن احدا من نفسها، و هي صفه جيده في المرأة. على عكس المرأة الدنيئه التي تسلم نفسها لكل طالب بلا مقابل. 
و بما ان السعى وراء زينه الدنيا يحتاج الى المزيد من المال الذي يرهق كاهل الرجل، كانت المرأة البخيله افضل من المسرفه، لانها بذلك تحافظ على ما لها و مال زوجها و اسرتها. 
اما الجبن و الخوف عند المرأة فهو من افضل الصفات، لان المرأة التي تدعى الجراه تضع نفسها في مواضع الخطر دون ان تحترس، و بما انها ضعيفه، فهى بذلك تعرض نفسها للمهالك، و لو كانت تخاف لتجنبت اماكن الخطر، و لحسبت لكل امر الف حساب. 
اما الرجل، فمن اسمى خصاله ان يكون متواضعا كريما شجاعا، على ان لايخرجه ذلك عن حدود الشرع، فينقلب تواضعه الى ذل، و كرمه الى اسراف، و شجاته الى تهور. 


معامله النساء و الحفاظ عليهن

و لم يبخل الامام (ع) عن اسداء بعض الارشادات الضروريه للرجال، في كيفيه معامله نسائهم و الحفاظ عليهن. فالمرأة التي تنساق عاده وراء عاطفتها، يجب ان تكون في ظل رجل يصونها من الشذوذ و الانزلاق، و يمحضها النصيحه و الراى الصائب، 
الذى يجعلها تفوز بسعاده الدنيا و الاخره. 
يقول الامام (ع) في آخر الوصيه التي كتبها لابنه الحسن (ع) عند انصرافه من صفين: 
'و اياك و مشاوره النساء، فان رايهن الى افن "اى نقص" و عزمهن الى وهن "اى ضعف". واكفف عليهن من ابصارهن بحجابك اياهن، فان شده الحجاب ابقى عليهن. و ليس خروجهن باشد من ادخالك من لايوثق به عليهن. و ان استطعت الا يعرفن غيرك فافعل. و لا تملك المرأة من امرها ما جاوز نفسها، فان المرأة ريحانه و ليست بقهرمانه. و لا تعد بكرامتها نفسها، و لا تطمعها في ان تشفع لغيرها. و اياك و التغاير في غير موضع غيره، فان ذلك يدعوا الصحيحه الى السقم، و البريئه الى الريب' "الخطبه رقم 270". و يتضمن هذا النص الامور التاليه
وشُكرا لَكُم جَميعا




                  *نسألكم الدعاء موقع عشاق الامام علي علية السلام* 
       حسن مهدي التميمي

نهج البلاغه



                          ************************************

وهو مجموعة خطب مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام
وأوامره وكتبه ورسائله وحكمه ومواعظه
جمعه: السيد الشريف الرضي


















نهج البلاغة
وهو مجموعة خطب مولانا أمير المؤمنين عليه السلام
وأوامره وكتبه ورسائله وحكمه ومواعظه
جمعه الشريف الرضي
أبي الحسن محمد بن الحسين بن موسى بن محمد
بن موسى بن إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم عليه السلام




محقق الطبعة
الشيخ فارس الحسّون







فهرس المطالب




  مقدمة التحقيق
    مقدمة السيد الشريف الرضي
بَابُ المخُتْارِ مِنْ خُطب مولانا أميرالمؤُمِنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام
    باب المختار من كتب أميرالمؤمنين عليه السلام
  بَابُ المُخْتَارِ مِنْ حِكَمِ أَمِيرالمؤمنين عليه السلام

مقدمة التحقيق
الحمد لله حمداً حمده به الأنبياء والأولياء والعباد الصالحون والصلاة والتسليم على أنبياء الله و رسله أجمعين، بالأخص خاتمهم وأفضلهم محمد المصطفى وأهل بيته الذين طهرهم و أذهب عنهم الرجس و جعلهم القدوة للناس إلى يوم الدين.
في طريق تحقيق نهج البلاغة
إن كتاباً ككتاب نهج البلاغة، الذي جمع بين دفتيه من خطب و مواعظ و حكم و رسائل لسيد الفصحاء والبلغاء الذي تربى منذ نعومة أظافره في حجر الرسالة وغذي بلبان النبوة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه الذي اتبع الرسول صلى الله عليه و آله اتباع الفصيل اثر أمه و كان منه كالصنو من الصنووالذراع من العضد.
لمن المؤسف عليه أن يقع تصحيحة وضبط نصه و شرح ألفاظه بأيد غير أمينة على تراثنا الخالد العريق، أمثال محمد عبده و محيي الدين الخياط و صبحي الصالح !!! الذين جعلوا كل اهتمامهم في تحقيقه جهة البلاغة والفصاحة فيه، غاضين طرفهم عما فيه من مسائل مهمة، بالأخص تلك المباني التي تختلف مع مذهبهم اختلافا جوهرياً، فحاولوا وبشتى الطرق تحريفها و تغييرها عن معناها لتتلائم و ما يعتقدونه و يذهبون إليه !!.
و من هذا المنطلق كانت تدور في خلدي فكرة تحقيق نهج البلاغة تحقيقاً يتناسب مع شأنه، ولكن خطورة الخوض في أعماقه كانت تردّدني كثيراً في الشروع به، إلى أن رفع تردّدي بعض أصحاب الخبرة ومن عليه المعول في هذا المجال و شجعني و بعث اطمئناناً في قلبي، فعزمت على تحقيقه واضعاً خطة بدائية لهذا العمل تتكوّن من:
(1) مقابلة الكتاب على أهم نسخه المعتبرة التي تمتاز بالقدم والقراءة والبلاغ، و كذا مقابلته على أقدم شروحه المعتبرة.
(2) تثبيت أهم الاختلافات بين النسخ في الهامش
(3) ذكر أسانيد ماورد في نهج البلاغة من خطب وحكم ورسائل متصلة إلى أمير المؤمنين عليه السلام، مع ذكر المصادر المتقدمة على زمن الشريف الرضي.
(4) عرض ما جاء في متن الكتاب من خطب ورسائل وحكم وكلمات قصار على المصادر القديمة والإشارة إلى ما وقع من اختلافات بينها.
(5) ذكر مصادر الروايات الواردة في الكتاب عن رسول الله صلى الله عليه و آله وبالاعتماد على أهم الكتب عند الفريقين.
(6) الأبيات الشرعية التي استشهد بها أمير المؤمنين صلوات الله عليه، تشرح و تذكر أقدم مصادرها.
(7) الأمثال والحكم التي استشهد بها أمير المؤمنين عليه السلام في كلامه، تشرح و يذكر قائلها.
(8) أسماء البلدان، تشرح بالاعتماد على أقدم المصادر.
(9) أسماء الحيوان والنبات، تشرح بصورة مختصرة.
(10) وضع ترجمة للأعلام المذكورين في نهج البلاغة.
(11) شرح الكلمات اللغوية الصعبة الفهم على عامة الناس، بالاعتماد على كتب اللغة و شروح نهج البلاغة القديمة.
(12) رد الشبهات الواردة حول نهج البلاغة، كل في محله في أثناء الخطب والرسائل والحكم.
(13) التعريف ببعض المبهمات والاشارات في نهج البلاغة، كذكر الاسماء التي أشار اليها عليه السلام في كلامه أوالبلدان والوقائع، أوماذكره بالكنية، كل ذلك وبالاعتماد على شروح نهج البلاغة المعتبرة والمصادر الاُمّ في التاريخ والحديث والرجال و...
(14) ومسائل أخرى كثيرة تستجد أثناء العمل.
وفي أثناء وضعي خطة العمل وفي بدايات الدخول في هذا المشروع الجبار، حصل لي لقاء مع سماحة الشيخ محمد النقدي حفظه الله، وأطلعني على عزمه لتجديد طبع نهج البلاغة بصف حروفه وإخراجه بحله قشيبة من الناحية الفنية، ذلك وبالاعتماد على طبعة صبحي الصالح.
فأخبرته بما في هذه الطبعة من تحريفات وأخطاء كثيرة !
فطلب مني تصحيح الكتاب وضبط نصه و رفع ما وقع فيه من تحريف، من دون إطالة أوتعليق.
فانتهزت الفرصة لكي أقدم عملي هذا بصورة بدائية، وذلك بمقابلته على أقدم نسختين وضبط نصه من دون الاشارة إلى الاختلافات.
وكلي أمل من العلماء وأصحاب النظر في أن يمدوني بنظراتهم العلمية، لتطوير العمل، ورفع جميع الاشكالات عنه، وإخراجه بصورة يكون مفخرة لمذهبنا و تراثنا الغني الخالد.
صبحي الصالح وعمله في نهج البلاغة
لم يبتكر صبحي الصالح في تحقيقه لنهج البلاغة شيئاً يذكر و يقدر، سوى ما صنعه من فهارس فنية للكتاب لم يسبقه بها أحد، وفي الفهرس الأول منها الذي خصصه للألفاظ المشروحة، يندهش القارئ عند مطابقتها مع ما شرحه محمد عبده، فيرى أكثرها أن لم نقل كلها منقولة نصا من شرح محمد عبده، نعم محمد عبده شرح كل عدة كلمات في هامش واحد و صبحي الصالح أفرد لكل كلمة هامشاً على حدة !! ونوّه صبحي الصالح في مقدمته إلى هذا المطلب، واعتذر عن هذا بأن محمد عبده عوّل في شرحه على شرح ابن أبي الحديد وأخذه منه حرفياً، و هو أيضاً عوّل على شرح ابن أبي الحديد وأخذه منه حرفياً!!.
وأما تقويم نص الكتاب فتشاهد صبحي الصالح في مقدمته ينقد محمد عبده بعدم اعتماده على مخطوطات نهج البلاغة في التصحيح، و أنه اكتفى بنسخة واحدة، ولم يجشم نفسه عناء البحث عن النسخ المختلفة و مقابلة بعضها ببعض ضبطاً للنص و تصحيحاً للأصل واختياراً للأدق الأكمل وانسجاماً مع أمانة العلم و منهجية التحقيق.
وبعد كلام صبحي الصالح هذا نوجّه له سؤالاً و نستفهم منه عن النسخ التي اعتمدها و جشم نفسه عناء البحث عنها و....؟!!
فلم يذكر لنا وصف نسخة اعتمدها في تحقيقه، واعتمد في ضبط النص على ما ضبطه محمد عبده، حتى أنه تابعه في الأقواس والتنصيص وتقطيع النص، وفي بعض الموارد التي خالف فيها محمد عبده، كان الحق مع محمد عبده، نعم يحتمل أن يكون قد قابل الكتاب مع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد الذي حققه محمد أبوالفضل إبراهيم.
ولو كان صبحي الصالح اعتمد في تحقيقه على مخطوطات لنهج البلاغة، لما وقع في اشتباهات كثيرة ستأتي الإشارة إليها.
وأما ما كتبه صبحي الصالح في مقدمته لنهج البلاغة والتي عنونها «لمحة خاطفة عن سيرة الامام علي عليه السلام» فتراه يراوغ فيها بين مدح و ذم دفين يجعل القارئ مصدقا بما يقوله و يحرف ذهنه عن الواقع من دون أن يشعر به.
فمثلا تراه يمدح أمير المؤمنين عليه السلام بأنه كان: ثاقب الفكر، راجح العقل، بصيراً بمرامي الأمور، له سياسة وحكمة وقيادة رشيدة.
ولكن سرعان ما تراه يعقب على كلامه هذا ويهدم كل ما بناه و يلقي بسمّه، وذلك عندما يقول: لكن مثله العليا تحكمت في حياته، فحالت دون تقبله للواقع !! ورضاه بأنصاف الحلول !! بينما تجسدت تلك الواقعية في خلفه معاوية !! وكانت قبل متجسدة على سمو ونبل في الخليفة العظيم عمر بن الخطاب !!
الفوارق بين هذه الطبعة وطبعة صبحي الصالح
تبلغ الفوارق بين هذه الطبعة وطبعة صبحي صالح المئات، فتجد في كل صفحة فوارق كثيرة، بل في كل سطر، وهذا ما يدل على أن صبحي الصالح لم يعتمد على أي أصل أو مخطوط، بل حاول في بعض الموارد تحريف النص عن معناه الأصلي، ولو أردنا استقصاء جميع الفوارق وبحثها لطال بنا المقام، فنقتصر هنا على الاشارة إلى بعض الفوارق ونترك الاستقصاء بمطابقة هذه الطبعة مع طبعة صبحي الصالح إلى القارئ الكريم:
صبحي الصالح
المخطوط
رقم (180) من الحكم: واعجباه أتكون الخلافة بالصحابة والقرابة ؟
واعجباه أتكون الخلافة بالصحابة ولاتكون بالصحابة والقرابة ؟!
رقم (243) من الحكم: والأمانة نظاماً للأمة.
والإمامة نظاماً للأمة
رقم (319) من الحكم: فما جاع فقير إلا بما متع به غني
فما جاع فقير إلا بما منع به غني
رقم (233) من الخطب: روى ذعلب اليمامي
روى اليماني


رقم (72) من الحكم: ضرار بن ضمرة الضبائي
ضرار بن ضمرة الضبابي
رقم (52) من الحكم: قال الرضي وقد روي هذا الكلام عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم
لم ترد هذه العبارة في المخطوط.
رقم (23) من الكتب: أقيموا هذين العمودين وأوقدوا هذين المصباحين وخلاكم ذم.
أقيموا هذين العمودين و خلاكم ذم.
رقم (378) من الحكم: ألا وإن من صحة البدن تقوى القلب.
ألا وإن من النعم سعة المال، وأفضل من سعة المال صحة البدن، وأفضل من صحة البدن تقوى القلب
رقم (1) من الخطب: والبلة والجمود واستأدى الله
والبلة والجمود والمساءة والسرور واستأدى الله
رقم (1) من الخطب: إلا إبليس اعترته الحمية وغلبت عليه الشقوة وتعزز بخلقة النار واستوهن خلق الصلصال
إلا ابليس وقبيله اعترتهم الحمية وغلبت عليهم الشقوة وتعززوا بخلقه النار واستوهنوا خلق الصلصال
رقم (52) من الخطب: ومن خطبة له عليه السلام وهي في التزهيد في الدنيا وثواب الله للزاهد و نعم الله على الخلق
ومن خطبة له عليه السلام قد تقدم مختارها برواية ونذكرها هاهنا برواية أخرى لتغاير الروايتين
رقم (126) من الخطب: و من كلام له عليه السلام لما عوتب على التسوية في العطاء
ومن كلام له عليه السلام لما عوتب على تصييره الناس أسوة في العطاء من غير تفضيل إلى السابقات والشرف قال:


رقم (31) من الكتب: المستسلم للدنيا
المستسلم للدهر الذام للدنيا
رقم (3) من الخطب، آخر الخطبة، في شرح الشريف الرضي:
وردت عبارة لم ترد في المطبوع وهي: وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه و آله خطب الناس وهو على ناقة قد شنق لها وهي تقصع بجرتها.
و من الشاهد على أن أشنق بمعنى شنق قول عدي بن زيد العبادي:
ساءها ما بنا تبين في الأيدي
وأشناقها إلى الأعناق
رقم (161) من الخطب: لا يتفاخرون ولايتناسلون
لا يتفاخرون ولايتناصرون ولايتناسلون
رقم (90) من الخطب: أولي أجنحة تسبح
أولى أجنحة مثنى وثلاث تسبح
رقم (3) من الخطب: وإنه لِيَعْلَم
وإنه لَيَعْلَم
رقم (64) من الخطب: وكل ظاهرٍ غير باطن
وكل ظاهر غيره غير باطن
رقم (3) من الخطب: وقسط آخرون
وفسق آخرون
آخر الكتاب
كلام الشريف الرضي في ختمه للكتاب لم يرد بأكمله في طبعة صبحي الصالح

عملنا في هذاالكتاب

تمركز عملنا في هذالكتاب على ضبط وتقويم النّص وعرضه بصورة خالية من الأخطاء والتحريف وبقدر الإمكان.  


فعرضنا الكتاب وقابلناه على أقدم مخطوطتين لنهج البلاغة:
(1) المخطوطة المحفوظة في المكتبة العامة لآية الله المرعشي في قم المقدسة، رقم (3827)، بخط النسخ، واضح مشكول، مضبوط متقن، كتب هذه المخطوطة الحسين بن الحسن بن الحسين المؤدّب، أتمّ الكتابة في شهر ذي القعدة سنة (499 هـ) أو (469 هـ)، وكاتب هذه النسخة من علماء الشيعة المقاربين لعصر الرضي والمرتضى، وقد أجازه تلميذه الشيخ محمد بن علي بن أحمد بن بندار رواية نهج البلاغة، كتبها في آخر الجزء الأول منه.
وفي هوامش هذه النسخة قيود مختصرة أكثرها لغوية يحتمل أن تكون من الناسخ ابن المؤدب.
والأوراق الثمانية الأولى والورقة الرابعة والعشرين، ليست من أصل النسخة، بل كتبت متأخراً بعد القرن العاشر.
ولم يرد في هذه النسخة في باب حكم أمير المؤمنين عليه السلام من الرقم 138 إلى الرقم 376، ومن الرقم 453 إلى آخر الكتاب.
(2) المخطوطة المحفوظة في مكتبة نصيري في طهران، كتبها فضل الله بن المطهر الحسيني في الرابع من رجب سنة 494 هـ، وهذه النسخة ناقصة من أولها إلى آخر الخطبة رقم (31)، فقابلنا مقدار النقص على نسخة أخرى في مكتبة النصيري، قديمة نفيسة بدون تاريخ.
وفي هذه النسخة سقط من الخطبة رقم (235) إلى آخر الخطب، ووردت الخطب رقم (185) إلى (192) بعد الخطبة رقم (234).
ووردت الخطب رقم (311) إلى (332) بخط يختلف عن خط أصل النسخة، ولعلّه يرجع إلى القرن العاشر.
فاعتمدنا في ضبط النّص على المخطوطتين، وأثبتنا ما كان متحداً بينهما في المتن، وفي موارد الاختلاف أثبتنا الأصح والأرجح في المتن من دون الإشارة إلي الاختلاف إلّا في موارد نادرة جدّاً، وفي موارد السقط من إحدى النسخ استعنا بطبعة محمد عبده، وفي الموارد التي لم ترد في المخطوطتين ووردت في طبعة صبحي الصالح ومحمد عبده و غيرهما، وارتأينا اثباتها، فوضعناها بين معقوفين، فكل ما تجده بين معقوفين فهو ممالم يرد في المخطوطتين، أوإضافة عناوين.
وأما شرح الكلمات التي أوردها صبحي الصالح في آخر الكتاب في فهارس الكتاب، جعلناها في
هامش كل صفحة تسهيلاً للقارئ.
وهذه الشروح رتّبتها وصحّحتها حسب المتن، بالأخص إذااختلفت الكلمة المشروحة في المتن، وأضفت بعض الشروح القليلة حسب ما تقتضيه الحاجة، وحذفت شروحاً أخر.
وذكرت بعض التعليقات على موارد قليلة وحتمتها بكلمة (المصحح).
وفي باب حكم أمير المؤمنين عليه السلام وردت بعضها التي كانت تحمل عدّة أرقام في حكمة واحدة، فوضعت لها رقماً واحداً ووحّدتها، وفقاً للنسختين.
وفي باب الخطب ورد في المخطوطتين في موارد كثيرة بدلاً من «ومن خطبة له» «ومن كلام له» وبالعكس، فرتبناه حسب المخطوط.
وفي أماكن متعددة من شرح الشريف الرضي للنص لم ترد مقاطع منه في المخطوطتين، ووردت في المطبوع، فحذفناها وفقاً للأصل المخطوط.
فتمركز عملنا على تقويم نصّ الكتاب وتقطيعه بما يوافق المناهج الجديدة، وملاحطة إعراب الكلمات وتصحيحها، وملاحظة الشروح، وترتيب الفهارس على أرقام صفحات هذه الطبعة.
فارس الحسّون
صورة الصفحة الأولى من النسخة المعتمدة
في المكتبة العامة لآية الله المرعشي
صورة ما ورد في آخر الجزء الأول من النسخة المعتمدة
في المكتبة العامة لآية الله المرعشي
صورة الصفحة الأخيرة من النسخة المعتمدة
في المكتبة العامة لآية الله المرعشي
صورة الصفحة الأخيرة من النسخة المعتمدة
في مكتبة فخر الدين النصيري
[                                  مقدمة السيد الشريف الرضي]
                                       بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد حمد الله الذي جعل الحمد ثمناً لنعمائه، ومَعاذاً(1) من بلائه، ووسيلاً(2) إلى جِنانه، وسبباً لزيادة إحسانه.
والصلاة على رسوله نبيّ الرحمة، وإمام الائمة، وسراج الامة، المنتخب من طينة الكرم، وسلالة المجد(3) الاقدم، ومَغرِس الفخار المُعْرِق(4)، وفرع
____________
1. المعاذ: الملجأ.
2. وسيلاً ـ جمع وسيلة ـ: وهي ما يتقرب به.
3. طينة الكرم: أصله; وسلالة المجد: فرعه.
4. الفخار المعرق: الطيب العرق والمنبت.
العَلاء المثمر المورق.
وعلى أهل بيته مصابيح الظُّلم، وعِصَم(1) الامم، ومنار(2) الدين الواضحة، ومثاقيل(3) الفضل الراجحة صلّى الله عليهم أجمعين، صلاة تكون إزاءً لفضلهم(4)، ومكافأة لعملهم، وكفاء لطيب فرعهم وأصلهم، ما أنار فجر ساطع، وخوى نجم(5) طالع.
فإنّي كنتُ في عنفوان شبابي(6)، وغضاضة الغصن(7)، ابتدأتُ بتأليف كتاب في
____________
1. العصم ـ جمع عصمة ـ: وهو ما يعتصم به.
2. المنار: الاعلام، واحدها منارة.
3. المثاقيل ـ جمع مثقال ـ: وهو مقدار وزن الشيء، فمثاقيل الفضل زناته، والمراد أن الفضل يعرف بهم مقداره.
4. إزاء لفضلهم: أي مقابلة له.
5. خوى النجم ـ بالتخفيف ـ: سقط، ـ وبالتشديد ـ: إذا مال للمغيب، وخوت النجوم: أمحلت فلم تمطر، كأخوت وخوّت بالتشديد.
6. عنفوان الشباب: أوله.
7. غضاضة الغصن: طراوته ولينه.
خصائص الائمة(عليهم السلام): يشتمل على محاسن أخبارهم، وجواهر كلامهم، حداني عليه(1) غرض ذكرته في صدر الكتاب، وجعلته أمام الكلام.
وفرغت من الخصائص التي تخصّ أميرالمؤمنين علياً(عليه السلام)، وعاقت عن إتمام بقية الكتاب محاجزات الايام، ومماطلات الزمان(2).
وكنتُ قد بوّبتُ ما خرج من ذلك أبواباً، وفصّلته فصولاً، فجاء في آخرها فصل يتضمّن محاسن ما نقل عنه(عليه السلام) من الكلام القصير في المواعظ والحِكم والامثال والاداب، دون الخطب الطويلة، والكتب المبسوطة.
فاستحسن جماعة من الاصدقاء ما اشتمل عليه الفصل المقدّم ذكره، معجَبين ببدائعه، ومتعجّبين من نواصعه(3).
وسألوني عند ذلك أن أبتدىء بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام مولانا أميرالمؤمنين(عليه السلام)في جميع فنونه، ومتشعّبات غصونه: من خطب، وكتب، ومواعظ وأدب.
علماً أنّ ذلك يتضمّن من عجائب البلاغة، وغرائب الفصاحة، وجواهر العربية، وثواقب(4) الكلم الدينية والدنياوية، ما لا يوجد مجتمعاً في كلام، ولا مجموعَ الاطراف في
____________
1. حداني عليه: بعثني وحملني، وهو مأخوذ من حداء الابل.
2. محاجزات الايام: ممانعاتها، ومماطلات الزمان: مدافعاته.
3. البدائع ـ جمع بديعة ـ: وهي الفعل على غير مثال، ثم صار يستعمل في الفعل الحسن وإن سبق إليه مبالغة في حسنه; والنواصع ـ جمع ناصعة ـ: الخالصة، وناصع كل شيء خالصه.
4. الثواقب: المضيئة، ومنه الشهاب الثاقب، ومن الكلم ما يضيء لسامعها طريق الوصول إلى ما دلت عليه فيهتدي بها إليه.
كتاب; إذ كان أميرالمؤمنين(عليه السلام)مشرَعَ(1) الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه(عليه السلام)ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينُها، وعلى أمثلته حذاكلّ قائل(2) خطيب، وبكلامه استعان كلّ واعظ بليغ.
ومع ذلك فقد سبق وقصروا، وتقدم وتأخروا، لانّ كلامه(عليه السلام)الكلامُ الذي عليه مَسْحة(3) من العلم الالهي، وفيه عَبْقَة(4) من الكلام النبوي.
فأجبتهم إلى الابتداء بذلك، عالماً بما فيه من عظيم النفع، ومنشور الذكر، ومذخور الاجر.
واعتمدتُ(5) به أن أبيّن عن عظيم قدر أميرالمؤمنين(عليه السلام) في هذه الفضيلة، مضافة إلى المحاسن الدّثِرَة(6)، والفضائل الجمّة.
وأنه(عليه السلام) انفرد ببلوغ غايتها عن جميع السلف الاولين الذين إنّما يؤثر(7) عنهم منها القليل
____________
1. المشرع: تذكير المشرعة، وهو المورد.
2. حذاكل قائل: اقتفى واتبع.
3. عليه مسحة: أثر أوعلامة، وكأنه يريد «بهاء منه وضياء».
4. العبقة: الرائحة اللاصقة بالشيء والمنتشرة عنه.
5. اعتمدت: قصدت.
6. الدَثِرة ـ بفتح فكسر ـ: الكثيرة، وكذلك الجمة.
7. يؤثر: أي ينقل عنهم ويحكي.
النادر، والشاذّ الشارد(1).
فأما كلامه(عليه السلام) فهو البحر الذي لا يُساجَل(2)، والجمّ الذي لا يحافَل(3).
وأردتُ أن يسوغ لي التمثّل في الافتخار به(عليه السلام) بقول الفرزدق:
أولئك أبائي فجئني بمثلهم * إذا جمعَتْنا يا جرير المجامعُ
ورأيتُ كلامه(عليه السلام) يدور على أقطاب(4) ثلاثة:
أولها: الخطب والاوامر.
وثانيها: الكتب والرسائل.
وثالثها: الحكم والمواعظ.
فأجمعتُ(5) بتوفيق الله جلّ جلاله على الابتداء باختيار محاسن الخطب، ثم محاسن الكتب، ثم محاسن الحِكَم والادب، مفرداً لكلّ صنف من ذلك باباً، ومفضلاً فيه أوراقاً، لتكون مقدمة لا ستدراك ما عساه يشذّ عنّي عاجلاً، ويقع إليّ آجلاً.
وإذا جاء شيء من كلامه(عليه السلام) الخارج في أثناء حوار، أوجواب سؤال، أوغرض آخر من الاغراض ـ في غير الانحاء التي ذكرتها، وقررت القاعدة عليها ـ نسبته إلى أليق الابواب به،
____________
1. الشاذ الشارد: المنفرد الذي ليس له أمثال.
2. لا يُساجَل: لا يغالب في الامتلاء وكثرة الماء.
3. لا يحُافَل: لا يغالب في الكثرة، من قولهم: ضرع حافل: ممتلىء كثير اللبن، والمراد أن كلامه لا يقابل بكلام غيره لكثرة فضائله.
4. أقطاب: أصول.
5. أجمع عليه: عزم.
وأشدّها ملامحة(1) لغرضه.
وربما جاء فيما أختارُهُ من ذلك فصول غير مُتّسِقة(2)، ومحاسن كَلِم غير منتظمة; لاني أورد النكت واللّمَع(3)، ولا أقصد التتالي والنسَق(4).
ومن عجائبه(عليه السلام) التي انفرد بها، وأمِنَ المشاركةَ فيها، أنّ كلامه(عليه السلام)الوارد في الزهد والمواعظ، والتذكير والزواجر، إذا تأمله المتأمل، وفكر فيه المتفكر، وخلع من قلبه أنه كلام مثله ممن عظم قدره، ونفذ أمره، وأحاط بالرقاب ملكه، لم يعترضه الشك في أنه من كلام من لا حظّ له في غير الزهادة، ولا شغل له بغير العبادة، قد قبع(5) في كسر بيت(6)، أوانقطع إلى سفح جبل(7)، لا يسمع إلاّ حسّه، ولا يرى إلاّ نفسه، ولا يكاد يوقن بأنه كلامُ من ينغمس في الحرب مصْلِتاً سيفه(8)، فيقُطّ الرقاب(9)، ويُجَدِّل الابطال(10)، ويعود به ينْطُفُ(11) دَماً،
____________
1. الملامحة: الابصار والنظر، والمراد هنا المناسبة والمشابهة.
2. المتسق: المنتظم يتلو بعضه بعضاً.
3. النكت: الاثار التي يتميز بها الشيء، واللمع: الاثار المميزة للاشياء بإضاءتها وبريقها.
4. النسق: التتابع والتتالي.
5. قبع القنفذ ـ كمنع ـ: أدخل رأسه في جلده، والرجل أدخل رأسه في قميصه، أراد منه: انزوى.
6. كسر البيت: جانب الخباء.
7. سفح الجبل: أسفله وجوانبه.
8. أصلت سيفه: جرده من غمده.
9. يقطّ الرقاب: يقطعها عرضاً، فان كان القطّ طولاً قيل: يقد.
10. يجدل الابطال: يلقيهم على الجدالة ـ كسحابة ـ وهي وجه الارض.
11. ينطف ـ من نطف كنصر وضرب ـ نطفاً وتنطافاً: سال.
ويقطر مُهَجاً(1)، وهو مع تلك الحال زاهد الزهّاد، وبدَلُ الابدال(2).
وهذه من فضائله العجيبة، وخصائصه اللطيفة، التي جمع بها بين الاضداد، وألف بين الاشتات(3)، وكثيراً ما أُذاكر الاخوان بها، وأستخرج عجبهم منها، وهي موضع للعبرة بها، والفكرة فيها.
وربما جاء في أثناء هذا الاختيار اللفظُ المردد، والمعنى المكرر، والعذر في ذلك أنّ روايات كلامه(عليه السلام)تختلف اختلافاً شديداً: فربما اتفق الكلام المختار في رواية فنُقِلَ على وجهه، ثم وُجد بعد ذلك في رواية أخرى موضوعاً غير موضعه الاول: إما بزيادة مختارة، أولفظ أحسن عبارة، فتقتضي الحال أن يعاد، استظهاراً للاختيار، وغَيْرةً على عقائل الكلام(4).
وربما بَعُدَ العهدُ أيضاً بما اختير أولاً فأُعيدَ بعضُه سهواً أونسياناً، لا قصداً واعتماداً.
ولا أدعي ـ مع ذلك ـ أنّي أحيط بأقطار جميع كلامه(5)(عليه السلام) حتّى لا يشذّ عنّي منه شاذّ،
____________
1. المهج ـ جمع مهجة ـ: وهي دم القلب، والروح.
2. الابدال: قوم صالحون لا تخلو الارض منهم، إذا مات منهم واحد بدل الله مكانه آخر، والواحد بدل أوبديل.
3. الاشتات ـ جمع شتيت ـ: ما تفرق من الاشياء.
4. عقائل الكلام: كرائمه، وعقيلة الحي: كريمته.
5. أقطار الكلام: جوانبه.
ولا يَنِدُّ نادّ(1)، بل لا أبعد أن يكون القاصر عني فوق الواقع إليّ، والحاصل في رِبْقتي(2) دون الخارج من يديّ، وما عليّ إلا بذل الجهد، وبلاغ الوسع، وعلى الله سبحانه نهج السبيل(3)، وإرشاد الدليل، إن شاء الله تعالى.
ورأيتُ من بعد تسمية هذا الكتاب بـ «نهج البلاغة» إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها،ويقرّب عليه طِلابها، وفيه حاجة العالم والمتعلّم، وبغية البليغ والزاهد، ويمضي في أثنائه من عجيب الكلام في التوحيد والعدل، وتنزيه الله سبحانه عن شَبَهِ الخلق، ما هو بِلال كلّ غلّة(4)، وشفاء كلّ علّة، وجِلاء كلّ شبهة.
ومن الله سبحانه أستمدّ التوفيق والعصمة، وأتنجّزُ التسديد والمعونة، وأستعيذه من خطأ الجنان، قبل خطأ اللسان، ومن زلّة الكَلِم(5)، قبل زلّة القدم، وهو حسبي ونعم الوكيل.
____________
1. الناد: المنفرد الشاذ.
2. الربقة: عروة حبل يجعل فيها رأس البهيمة.
3. نهج السبيل: إبانته وإيضاحه.
4. الغلة: العطش.
5. زلة الكلم: الخطأ في القول.

بَابُ المخُتْارِ مِنْ خُطب
مولانا أميرالمؤُمِنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام
وأوامره ونواهيه
وكلامه الجاري مجرى الخطب
والمواعظ في المقامات المحضورة والمواقف
المذكورة والخطوب الواردة

[ 1 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
يذكر فيها ابتداءَ خلق السماءِ والاَرض، وخلق آدم عليه الصلاة والسلام
[وفيها ذكر الحج]
[
وتحتوي على حمد الله، وخلق العالم، وخلق الملائكة، واختيار الانبياء، ومبعث النبي، والقرآن، والاحكام الشرعية]
الحَمْدُ للهِ الَّذَي لاَ يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ القَائِلُونَ، وَلاِ يُحْصِي نَعْمَاءَهُ العَادُّونَ، ولاَ يُؤَدِّي حَقَّهُ الُمجْتَهِدُونَ، الَّذِي لاَ يُدْركُهُ بُعْدُ الهِمَمِ، وَلاَ يَنَالُهُ غَوْصُ الفِطَنِ، الَّذِي لَيْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ، وَلاَ نَعْتٌ مَوْجُودٌ، وَلا وَقْتٌ مَعْدُودٌ، وَلا أَجَلٌ مَمْدُودٌ.
فَطَرَ الخَلائِقَ(1) بِقُدْرَتِهَ، وَنَشَرَ الرِّيَاحَ بِرَحْمَتِهِ، وَوَتَّدَ(2) بِالصُّخُورِ مَيَدَانَ أَرْضِهِ(3).
أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ، وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْديقُ بِهِ، وَكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ، وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ الاِْخْلاصُ لَهُ، وَكَمَالُ الاِْخْلاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ، لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَة أَنَّها غَيْرُ المَوْصُوفِ، وَشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوف أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ، فَمَنْ وَصَفَ اللهَ سُبْحَانَهُ فَقَدْ   

قَرَنَهُ، وَمَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ،وَمَنْ ثَنَّاهُ فَقَد جَزَّأَهُ، وَمَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ، [وَمَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ أشَارَ إِلَيْهِ، ]وَمَنْ أشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ، وَمَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ، وَمَنْ قَالَ: «فِيمَ» فَقَدْ ضَمَّنَهُ، وَمَنْ قَالَ: «عَلاَمَ؟» فَقَدْ أَخْلَى مِنُهُ.
كائِنٌ لاَ عَنْ حَدَث(4)، مَوْجُودٌ لاَ عَنْ عَدَم، مَعَ كُلِّ شَيْء لاَ بِمُقَارَنَة، وَغَيْرُ كُلِّ شيء لا بِمُزَايَلَة(5)، فَاعِلٌ لا بِمَعْنَى الْحَرَكَاتِ وَالاْلةِ، بَصِيرٌ إذْ لاَ مَنْظُورَ إلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ، مُتَوَحِّدٌ إذْ لاَ سَكَنَ يَسْتَأْنِسُ بهِ وَلاَ يَسْتوْحِشُ لِفَقْدِهِ.
____________
1. فَطَرَ الخلائقَ: ابتدعها على غير مثال سبق.
2. وَتّدَ ـ بالتشديد والتخفيف ـ: ثبّت.
3. ميَدان أرضه: تحرّكها بتمايل.
4. لاعن حَدَث: لا عن إيجاد موجد.
5. المزايلة: المفارقة والمباينة.
[خلق العالم]
أَنْشَأَ الخَلْقَ إنْشَاءً، وَابْتَدَأَهُ ابْتِدَاءً، بِلاَ رَوِيَّة أَجَالَهَا(1)، وَلاَ تَجْرِبَة اسْتَفَادَهَا، وَلاَ حَرَكَة أَحْدَثَهَا، وَلاَ هَمَامَةِ نَفْس(2) اظْطَرَبَ فِيهَا.
أَحَالَ الاْشياءَ لاَِوْقَاتِهَا، وَلاََمَ(3) بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا، وَغَرَّزَ غَرائِزَهَا(4)، وَأَلزَمَهَا أشْبَاحَهَا، عَالِماً بِهَا قَبْلَ ابْتِدَائِهَا، مُحِيطاً بِحُدُودِها وَانْتِهَائِهَا، عَارفاً بِقَرَائِنِها وَأَحْنَائِهَا(5).
ثُمَّ أَنْشَأَ ـ سُبْحَانَهُ ـ فَتْقَ الاَْجْوَاءِ، وَشَقَّ الاَْرْجَاءِ، وَسَكَائِكَ(6) الَهوَاءِ، فأَجازَ فِيهَا مَاءً مُتَلاطِماً تَيَّارُهُ(7)، مُتَراكِماً زَخَّارُهُ(8)، حَمَلَهُ عَلَى مَتْنِ
____________
1. الرّوِيّة: الفكر، وأجالها: أدارها وَرَدَدَها.
2. هَمَامَة النفس ـ بفتح الهاء ـ: اهتمامها بالامر وقصدها إليه.
3. لاََمَ: قَرَنَ.
4. غَرّزَ غَرائزها: أودع فيها طباعها.
5. القرائن ـ هنا ـ: جمع قَرُونة وهي النفس، والاحْنَاء: جمع حِنْو ـ بالكسرـ: وهو الجانب.
6. السكائك: جمع سُكاكة ـ بالضم ـ: وهي الهواء الملاقي عنان السماء.
7. التيّار ـ هناـ: الموج.
8. الزّخّار: الشديد الزخر، أي الامتداد والارتفاع.
الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ، وَالزَّعْزَعِ(1) الْقَاصِفَةِ، فَأَمَرَها بِرَدِّهِ، وَسَلَّطَهَا عَلَى شَدِّهِ، وَقَرنَهَا إِلَى حَدِّهِ، الهَوَاءُ مِنْ تَحْتِها فَتِيقٌ(2)، وَالمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا دَفِيقٌ(3).
ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ رِيحاً اعْتَقَمَ مَهَبَّهَا(4)، وَأَدَامَ مُرَبَّهَا(5)، وَأَعْصَفَ مَجْرَاها، وَأَبْعَدَ مَنْشَاهَا، فَأَمَرَها بِتَصْفِيقِ المَاءِ(6) الزَّخَّارِ، وَإِثَارَةِ مَوْجِ البِحَارِ، فَمَخَضَتْهُ(7) مَخْضَ السِّقَاءِ، وَعَصَفَتْ بهِ عَصْفَهَا بِالفَضَاءِ، تَرُدُّ أَوَّلَهُ عَلَى آخِرِهِ، وَسَاجِيَهُ(8) عَلَى مَائِرِهِ(9)، حَتَّى عَبَّ عُبَابُهُ، وَرَمَى بِالزَّبَدِ رُكَامُهُ(10)،
____________
1. الزّعزع: الريح الّتي تزعزع كلّ ثابت.
2. الفتيق: المفتوق.
3. الدفيق: المدفوق.
4. اعْتَقَمَ مَهَبَّهَا: جعل هبوبها عقيماً، والريح العقيم التي لا تلقح سحاباً ولا شجراً.
5. مُرَبّها ـ بضم الميم ـ مصدر ميمي من أرَبّ بالمكان: لازمه، فالمُرَبّ: المُلازَمة.
6. تَصْفيق الماء: تحريكه وتقليبه.
7. مَخَضَتْهُ: حرّكته بشدّة كما يُمْخَضُ السّقاء.
8. الساجي: الساكن.
9. المائر: الذي يذهب ويجيء.
10. رُكامُهُ: ما تراكم منه بعضه على بعض.
فَرَفَعَهُ فِي هَوَاء مُنْفَتِق، وَجَوٍّ مُنْفَهِق(1)، فَسَوَّى مِنْهُ سَبْعَ سَموَات، جَعَلَ سُفْلاَهُنَّ مَوْجاً مَكْفُوفاً(2)، وَعُلْيَاهُنَّ سَقْفاً مَحْفُوظاً، وَسَمْكاً مَرْفُوعاً، بِغَيْر عَمَد يَدْعَمُهَا، وَلا دِسَار(3) يَنْظِمُها.
ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزينَةِ الكَوَاكِبِ، وَضِياءِ الثَّوَاقِبِ(4)، وَأَجْرَى فِيها سِرَاجاً مُسْتَطِيراً(5)، وَقَمَراً مُنِيراً: في فَلَك دَائِر، وَسَقْف سَائِر، وَرَقِيم(6) مَائِر.
[خلق الملائكة]
ثُمَّ فَتَقَ مَا بَيْنَ السَّمواتِ العُلاَ، فَمَلاََهُنَّ أَطْواراً مِنْ مَلائِكَتِهِ:
مِنْهُمْ سُجُودٌ لاَيَرْكَعُونَ، وَرُكُوعٌ لاَ يَنْتَصِبُونَ، وَصَافُّونَ(7) لاَ
____________
1. المُنفَهِقُ: المفتوح الواسع.
2. المكفوف: الممنوع من السّيَلان.
3. الدِّسَار: واحدُ الدّسُر، وهي المسَامير.
4. الثّوَاقب: المنيرة المشرقة.
5. مُسْتَطِيراً: منتشر الضياء، وهو الشمس.
6. الرّقِيمُ: اسم من اسماء الفلك: سُمّي به لانه مرقوم بالكواكب.
7. صَافّونَ: قائمون صفوفاً.
يَتَزَايَلُونَ(1)، وَمُسَبِّحُونَ لاَ يَسْأَمُونَ، لاَ يَغْشَاهُمْ نَوْمُ العُيُونِ، وَلاَ سَهْوُ العُقُولِ، وَلاَ فَتْرَةُ الاَبْدَانِ، ولاَ غَفْلَةُ النِّسْيَانِ.
وَمِنْهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى وَحْيِهِ، وأَلسِنَةٌ إِلَى رُسُلِهِ، وَمُخْتَلِفُونَ بِقَضَائِهِ وَأَمْرهِ.
وَمِنْهُمُ الحَفَظَةُ لِعِبَادِهِ، وَالسَّدَنَةُ(2) لاَِبْوَابِ جِنَانِهِ.
وَمِنْهُمُ الثَّابِتَةُ في الاَْرَضِينَ السُّفْلَى أَقْدَامُهُمْ، وَالمَارِقَةُ مِنَ السَّماءِ العُلْيَا أَعْنَاقُهُمْ، والخَارجَةُ مِنَ الاَْقْطَارِ أَرْكَانُهُمْ، وَالمُنَاسِبَةُ لِقَوَائِمِ العَرْشِ أَكْتَافُهُمْ، نَاكِسَةٌ دُونَهُ أَبْصارُهُمْ، مُتَلَفِّعُونَ(3) تَحْتَهُ بِأَجْنِحَتِهِمْ، مَضْرُوبَةٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مِنْ دُونَهُمْ حُجُبُ العِزَّةِ، وَأسْتَارُ القُدْرَةِ، لاَ يَتَوَهَّمُونَ رَبَّهُمْ بالتَّصْوِيرِ، وَلاَ يُجْرُونَ عَلَيْهِ صِفَاتِ المَصْنُوعِينَ، وَلاَ يَحُدُّونَهُ بِالاَْماكِنِ، وَلاَ يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالنَّظَائِرِ.
منها: في صفة خلق آدم(عليه السلام)
ثُمَّ جَمَعَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَزْنِ(4) الاَْرْضِ وَسَهْلِهَا، وَعَذْبِهَا وَسَبَخِهَا(5)، تُرْبَةً
____________
1. لا يَتَزَايَلُونَ: لايتفارقون.
2. السَّدَنَة: جمع سَادِن وهو الخادم.
3. مُتَلَفّعون: من تلفّع بالثوب إذا التحف به.
4. حَزْنُ الارض: وَعْرُها.
5. سَبَخُ الارض: ما ملح منها.
سَنَّهَا بالمَاءِ(1) حَتَّى خَلَصَتْ، وَلاَطَهَا(2) بِالبَلَّةِ(3) حَتَّى لَزَبَتْ(4)، فَجَبَلَ مِنْها صُورَةً ذَاتَ أَحْنَاء(5) وَوُصُول، وَأَعْضَاء وَفُصُول: أَجْمَدَهَا حَتَّى اسْتَمْسَكَتْ، وَأَصْلَدَهَا(6) حَتَّى صَلْصَلَتْ(7)، لِوَقْت مَعْدُود، وَأجَل مَعْلُوم، ثُمَّ نَفَخَ فِيها مِنْ رُوحِهِ فَمَثُلَتْ(8) إِنْساناً ذَا أَذْهَان يُجيلُهَا، وَفِكَر يَتَصَرَّفُ بِهَا، وَجَوَارِحَ يَخْتَدِمُهَا(9)، وَأَدَوَات يُقَلِّبُهَا، وَمَعْرِفَة يَفْرُقُ بِهَا بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ، والاَذْوَاقِ والَمشَامِّ، وَالاَْلوَانِ وَالاَْجْنَاس، مَعْجُوناً بطِينَةِ الاَْلوَانِ الُمخْتَلِفَةِ، وَالاَشْبَاهِ المُؤْتَلِفَةِ، وَالاَْضْدَادِ المُتَعَادِيَةِ، والاَْخْلاطِ المُتَبَايِنَةِ، مِنَ
____________
1. سَنّ الماء: صَبّه.
2. لاَطَها: خَلَطَها وَعَجَنَها.
3. البَلة ـ بالفتح ـ: من البَلَل.
4. لَزَبَ: من باب نصر، بمعنى التصق وثبت واشتد.
5. الاحْنَاء: جمع حِنْو ـ بالكسر ـ وهو الجانب من البدن.
6. أصْلَدَها: جعلها صُلْبَةً ملساء متينة.
7. صَلْصَلَتْ: يَبِسَتْ حتى كانت تُسمع لها صَلْصَلَةٌ إذا هَبّت عليها الرياح.
8. مَثُلَ ـ ككرُم وَفَتَحَ ـ: قام مُنْتَصِباً.
9. يَخْتَدِمُها: يجعلها في خدمة مآربه.
الحَرِّ والبَرْدِ، وَالبَلَّةِ وَالْجُمُودِ، وَالْمَساءَةِ وَالسُّرُورِ، وَاسْتَأْدَى اللهُ سُبْحَانَهُ المَلائكَةَ وَدِيعَتَهُ(1) لَدَيْهِمْ، وَعَهْدَ وَصِيَّتِهِ إِلَيْهمْ، في الاْذْعَانِ بالسُّجُودِ لَهُ، وَالخُنُوعِ لِتَكْرِمَتِهِ، فَقَالَ عزَّمِن قائِل: (اسْجُدُوا لاِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ)وَقَبِيلَهُ، اعْتَرَتْهُمُ الحَمِيَّةُ، وَغَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الشِّقْوَةُ، وَتَعَزَّزُوا بِخِلْقَةِ النَّارِ، وَاسْتَوْهَنُوا خَلْقَ الصَّلْصَالِ، فَأَعْطَاهُ اللهُ تَعالَى النَّظِرَةَ اسْتِحْقَاقاً لِلسُّخْطَةِ، وَاسْتِتْماماً لِلْبَلِيَّةِ، وَإِنْجَازاً لِلْعِدَةِ، فَقَالَ: (إنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ).
ثُمَّ أَسْكَنَ سُبْحَانَهُ آدَمَ دَاراً أرْغَدَ فِيهَاعَيْشَهُ، وَآمَنَ فِيهَا مَحَلَّتَهُ، وَحَذَّرَهُ إِبْلِيسَ وَعَدَاوَتَهُ، فَاغْتَرَّهُ(2) عَدُوُّهُ نَفَاسَةً عَلَيْهِ بِدَارِ الْمُقَامِ، وَمُرَافَقَةِ الاَْبْرَارِ، فَبَاعَ الْيَقِينَ بِشَكِّهِ، وَالعَزِيمَةَ بِوَهْنِهِ، وَاسْتَبْدَلَ بِالْجَذَلِ(3) وَجَلاً(4)، وَبِالاْغْتِرَارِ نَدَماً.
ثُمَّ بَسَطَ اللهُ سُبْحَانَهُ لَهُ في تَوْبَتِهِ، وَلَقَّاهُ كَلِمَةَ رَحْمَتِهِ، وَوَعَدَهُ المَرَدَّ إِلَى جَنَّتِهِ، فَأَهْبَطَهُ إِلَى دَارِ الَبَلِيَّةِ، وَتَنَاسُلِ الذُّرِّيَّةِ.
____________
1. اسْتَأدَى الله سبحانه الملائكةَ وديعَتَهُ: طالبهم بأدائها. 2. اغْتَرّ آدمَ عدوّهُ الشيطانُ: أي انتهز منه غِرّة فأغواه.
3. الجَذَل ـ بالتحريك ـ: الفرح.
4. الوَجَل: الخوف.
[اختيار الانبياء]
وَاصْطَفى سُبْحَانَهُ مِنْ وَلَدَهِ أَنْبيَاءَ أَخَذَ عَلَى الْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ(1)، وَعَلَى تَبْليغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ، لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اللهِ إِلَيْهِمْ، فَجَهِلُوا حَقَّهُ، واتَّخَذُوا الاَْنْدَادَ(2) مَعَهُ، وَاجْتَالَتْهُمُ(3) الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرفَتِهِ، وَاقتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ، فَبَعَثَ فِيهمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِياءَهُ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ(4) مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بَالتَّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ، وَيُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ: مِنْ سَقْف فَوْقَهُمْ مَرْفُوع، وَمِهَاد تَحْتَهُمْ مَوْضُوع، وَمَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ، وَآجَال تُفْنِيهمْ، وَأَوْصَاب(5) تُهْرِمُهُمْ، وَأَحْدَاث تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُخْلِ اللهُ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَل، أَوْ كِتَاب مُنْزَل، أَوْ حُجَّة لاَزِمَة، أَوْ مَحَجَّة(6) قَائِمَة، رُسُلٌ لا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ، وَلاَ كَثْرَةُ
____________
1. ميثاقهم: عهدهم.
2. الانْدَادُ: الامْثَال، وأراد المعبودين من دونه سبحانه وتعالى.
3. اجْتَالَتْهُمْ ـ بالجيم ـ: صرفتهم عن قصدهم.
4. وَاتَرَ إليهم أنبياءهُ: أرسلهم وبين كل نبيّ ومَن بعده فترة، وقوله «لِيَسْتَأدُوهُمْ»: ليطلبوا الاداء.
5. الاوْصَاب: المتاعب.
6. المَحَجّة: الطريق القويمة الواضحة.
المُكَذِّبِينَ لَهُمْ: مِنْ سَابِق سُمِّيَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ، أَوْ غَابِر عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ.
عَلَى ذْلِكَ نَسَلَتِ(1) القُرُونُ، وَمَضَتِ الدُّهُورُ، وَسَلَفَتِ الاْباءُ، وَخَلَفَتِ الاَْبْنَاءُ.
[مبعث النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)]
إِلَى أَنْ بَعَثَ اللهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّداً(صلى الله عليه وآله) لاِِنْجَازِ عِدَتِهِ(2) وَتَمامِ نُبُوَّتِهِ، مَأْخُوذاً عَلَى النَّبِيِّينَ مِيثَاقُهُ، مَشْهُورَةً سِمَاتُهُ(3)، كَرِيماً مِيلادُهُ. وَأهْلُ الاَْرْضِ يَوْمَئِذ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، وَأَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ، وَطَرَائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ، بَيْنَ مُشَبِّه للهِِ بِخَلْقِهِ، أَوْ مُلْحِد(4)في اسْمِهِ، أَوْ مُشِير إِلَى غَيْرهِ، فَهَدَاهُمْ بهِ مِنَ الضَّلاَلَةِ، وَأَنْقَذَهُمْ بمَكانِهِ مِنَ الجَهَالَةِ.
ثُمَّ اخْتَارَ سُبْحَانَهُ لُِمحَمَّد صلى الله عليه لِقَاءَهُ، وَرَضِيَ لَهُ مَا عِنْدَهُ، فَأَكْرَمَهُ عَنْ دَارِالدُّنْيَا، وَرَغِبَ بِهَ عَنْ مُقَارَنَةِ البَلْوَى، فَقَبَضَهُ إِلَيْهِ كَرِيماً، وَخَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ الاَْنْبيَاءُ في أُمَمِها، إذْ لَم يَتْرُكُوهُمْ هَمَلاً، بِغَيْر طَريق واضِح، ولاَعَلَم(5) قَائِم.
____________
1. العَلَمُ ـ بفتحتين ـ: ما يوضع ليُهتدى به.
1. نَسَلَتْ ـ بالبناء للفاعل ـ: مضت متتابعةً.
2. الضمير في «عِدَتِهِ» لله تعالى، والمراد وعد الله بإرسال محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) على لسان أنبيائه السابقين.
3. سِمَاتُهُ: علاماته التي ذُكِرَتْ في كتب الانبياء السابقين الذين بشروا به.
4. المُلْحِدُ في اسم الله: الذي يميل به عن حقيقة مسماه.
[القرآن والاحكام الشرعية]
كِتَابَ رَبِّكُمْ [فِيكُمْ:] مُبَيِّناً حَلاَلَهُ وَحَرامَهُ، وَفَرَائِضَهُ وَفَضَائِلَهُ، وَنَاسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ(1)، وَرُخَصَهُ وَعَزَائِمَهُ(2)، وَخَاصَّهُ وَعَامَّهُ، وَعِبَرَهُ وَأَمْثَالَهُ، وَمُرْسَلَهُ وَمَحْدُودَهُ(3)، وَمُحْكَمَهُ وَمُتَشَابِهَهُ(4)، مُفَسِّراً جُمَلَهُ، وَمُبَيِّناً غَوَامِضَهُ.
بَيْنَ مَأْخُوذ مِيثَاقُ عِلْمِهِ، وَمُوَسَّع عَلَى العِبَادِ في جَهْلِهِ(5)، وَبَيْنَ مُثْبَت في الكِتابِ فَرْضُهُ، وَمَعْلُوم في السُّنَّهِ نَسْخُهُ، وَوَاجب في السُّنَّةِ أَخْذُهُ، وَمُرَخَّص في الكِتابِ تَرْكُهُ، وَبَيْنَ وَاجِب بِوَقْتِهِ، وَزَائِل في مُسْتَقْبَلِهِ، وَمُبَايَنٌ بَيْنَ مَحَارِمِهِ، مِنْ كَبير أَوْعَدَ عَلَيْهِ نِيرَانَهُ، أَوْ صَغِير أَرْصَدَ لَهُ غُفْرَانَهُ، وَبَيْنَ مَقْبُول في أَدْنَاهُ، ومُوَسَّع في أَقْصَاهُ.
____________
1. ناسِخُهُ ومنسوخه: أحكامه الشرعية التي رفع بعضها بعضاً.
2. رُخَصَهُ: ما تُرُخّصَ فيه، عكسها عَزائمُهُ.
3. المُرْسَلُ: المُطْلَقُ، المحدود: المقيّد.
4. المُحْكَمُ: كآيات الاحكام والاخبار الصريحة في معانيها، والمتشابه كقوله: (يَدُاللهِ فوقَ أيديهم)
5. المُوَسِعُ على العباد في جهله: كالحروف المفتتحة بها السور نحو الم والر.
و[منها:] في ذكر الحج
وَفَرَضَ عَلَيْكُمْ حَجَّ بَيْتِهِ الحَرَامِ، الَّذِي جَعَلَهُ قِبْلَةً لِلاَْنَامِ، يَرِدُونَهُ وُرُودَ الاَنْعَامِ، وَيأْلَهُونَ إِلَيْهِ(1) وُلُوهَ الحَمَامِ.
جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلاَمَةً لِتَوَاضُعِهمْ لِعَظَمَتِهِ، وَإِذْعَانِهِمْ لِعِزَّتِهِ، وَاخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ سُمَّاعاً أَجَابُوا إِلَيْهِ دَعْوَتَهُ، وَصَدَّقُوا كَلِمَتِهُ، وَوَقَفُوا مَوَاقِفَ أَنْبِيَائِهِ، وَتَشَبَّهُوا بمَلاَئِكَتِهِ المُطِيفِينَ بِعَرْشِهِ، يُحْرِزُونَ الاْرْبَاحَ فِي مَتْجَرِ عِبَادَتِهِ، وَيَتَبَادَرُونَ عِنْدَهُ مَوْعِدَ مَغْفِرَتِهِ.
جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ لِلاِسْلامِ عَلَماً، وَلِلْعَائِذِينَ حَرَماً، فَرَضَ حَجَّهُ، وَأَوْجَبَ حَقَّهُ، وَكَتَبَ عَلَيْكُمْ وِفَادَتَهُ(2)، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: (وَللهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمينَ).
____________
1. يَألَهُونَ إليه: يَلُوذُون به ويَعكفون عليه.
2. الوِفَادَة: الزيارة.
[ 2 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
بعد انصرافه من صفين
]وفيها حال الناس قبل البعثة وصفة آل النبي ثمّ صفة قوم آخرين[
أحْمَدُهُ اسْتِتْماماً لِنِعْمَتِهِ، وَاسْتِسْلاَماً لِعِزَّتِهِ، واسْتِعْصَاماً مِنْ مَعْصِيَتِهِ، وَأَسْتَعِينُهُ فَاقَةً إِلى كِفَايَتِهِ، إِنَّهُ لاَ يَضِلُّ مَنْ هَدَاهُ، وَلا يَئِلُ(1) مَنْ عَادَاهُ، وَلا يَفْتَقِرُ مَنْ كَفَاهُ; فَإِنَّهُ أَرْجَحُ ما وُزِنَ، وَأَفْضَلُ مَا خُزِنَ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، شَهَادَةً مُمْتَحَناً إِخْلاَصُهَا، مُعْتَقَداً مُصَاصُهَا(2)، نَتَمَسَّكُ بها أَبَداً ما أَبْقانَا، وَنَدَّخِرُهَا لاَِهَاوِيلِ مَا يَلْقَانَا، فَإِنَّها عَزيمَةُ الاِْيمَانِ، وَفَاتِحَةُ الاِْحْسَانِ، وَمَرْضَاةُ الرَّحْمنِ، وَمَدْحَرَةُ الشَّيْطَانِ(3).
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أرْسَلَهُ بِالدِّينِ المشْهُورِ، وَالعَلَمِ المأْثُورِ، وَالكِتَابِ المسْطُورِ، وَالنُّورِ السَّاطِعِ، وَالضِّيَاءِ اللاَّمِعِ، وَالاَمْرِ الصَّادِعِ، إزَاحَةً لِلشُّبُهَاتِ، وَاحْتِجَاجاً بِالبَيِّنَاتِ، وَتَحْذِيراً بِالايَاتِ، وَتَخْويفاً بِالمَثُلاَتِ(4)، وَالنَّاسُ في فِتَن انْجَذَمَ(5) فِيها حَبْلُ الدِّينِ، وَتَزَعْزَعَتْ سَوَارِي(6) اليَقِينِ، وَاخْتَلَفَ النَّجْرُ(7)، وَتَشَتَّتَ الاَْمْرُ، وَضَاقَ
____________
1. وَألَ: مضارعها يَئِلُ ـ مِثل وَعَدَ يَعِدُ ـ نجا ينجو.
2. مُصَاصُ كل شيء: خالصُهُ.
3. مَدْحَرَةُ الشيطان: أي أنها تبعده وتَطْرُدُهُ.
4. المَثُلات ـ بفتح فضم ـ: العقوبات، جمع مَثُلَة بضم الثاء وسكونها بعد الميم.
5. انْجَذَمَ: انقطع.
6. السّوارِي: جمع سارية، وهي العَمُود والدِّعامة.
7. النّجْر ـ بفتح النون وسكون الجيم ـ: الاصل.
الْـمَخْرَجُ، وَعَمِيَ المَصْدَرُ، فَالهُدَى خَامِلٌ، واَلعَمَى شَامِلٌ.
عُصِيَ الرَّحْمنُ، وَنُصِرَ الشَّيْطَانُ، وَخُذِلَ الاِْيمَانُ، فَانْهَارَتْ دَعَائِمُهُ، وَتَنكَّرَتْ مَعَالِمُهُ، وَدَرَسَتْ(1) سُبُلُهُ، وَعَفَتْ شُرُكُهُ(2).
أَطَاعُوا الشَّيْطَانَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَهُ، وَوَرَدُوا مَنَاهِلَهُ(3)، بِهِمْ سَارَتْ أَعْلامُهُ، وَقَامَ لِوَاؤُهُ، في فِتَن دَاسَتْهُمْ بِأَخْفَافِهَا(4)، وَوَطِئَتْهُمْ بأَظْلاَفِهَا(5)، وَقَامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا(6)، فَهُمْ فِيهَا تَائِهُونَ حَائِرونَ جَاهِلُونَ مَفْتُونُونَ، في خَيْرِ دَار، وَشَرِّ جِيرَان، نَوْمُهُمْ سُهُودٌ، وَكُحْلُهُمْ دُمُوعٌ، بأَرْض عَالِمُها مُلْجَمٌ، وَجَاهِلُها مُكْرَمٌ.
____________
1. دَرَسَت، كانْدَرَسَتْ: انطَمَستْ.
2. الشّرُك: جمع شِراك ككتاب وهي الطريق.
3. المَنَاهِلُ: جمع مَنْهل، وهو مَوْرِد النهر.
4. الاخْفَاف: جمع خُفّ، وهو للبعير كالقدَم للانسان.
5. الاظلاف: جمع ظِلْف ـ بالكسر ـ للبقر والشاة وشبههما، كالخفّ للبعير والقدم للانسان.
6. السّنَابك: جمع سُنْبُك ـ كقُنْفُذ ـ وهو طَرَفُ الحافر.
ومنها: ويعني آل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)
هُمْ مَوْضِعُ سِرِّهِ، وَلَجَأُ(1) أَمْرِهِ، وَعَيْبَةُ(2) عِلْمِهِ، وَمَوْئِلُ(3) حُكْمِهِ، وَكُهُوفُ كُتُبِهِ، وَجِبَالُ دِينِه، بِهِمْ أَقَامَ انْحِناءَ ظَهْرِهِ، وَأذْهَبَ ارْتِعَادَ فَرَائِصِهِ(4).
منها: يعني بها قوماً آخرين
زَرَعُوا الفُجُورَ، وَسَقَوْهُ الغُرُورَ، وَحَصَدُوا الثُّبُورَ(5)، لا يُقَاسُ بِآلِ مُحَمَّد(عليهم السلام)مِنْ هذِهِ الاُمَّةِ أَحَدٌ، وَلا يُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عَلَيْهِ أبَداً.
هُمْ أَسَاسُ الدِّينِ، وَعِمَادُ اليَقِينِ، إِلَيْهمْ يَفِيءُ الغَالي(6)، وَبِهِمْ يَلْحَقُ التَّالي، وَلَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الوِلايَةِ، وَفِيهِمُ الوَصِيَّةُ وَالوِرَاثَةُ، الاْنَ إِذْ رَجَعَ الحَقُّ إِلَى أَهْلِهِ، وَنُقِلَ إِلَى مُنْتَقَلِهِ.
____________
1. اللّجَأ ـ محرّكةً ـ: المَلاَذُ وما تلتجىء وتعتصم به.
2. العَيْبَةُ ـ بالفتح ـ: الوعاء.
3. المَوْئِلُ: المَرْجِع.
4. الفَرَائص: جمع فريصة، وهي اللحمة التي بين الجنب والكتف لاتزال تُرْعَدُ من الدابة.
5. الثّبُور: الهلاك.
6. الغالي: المبالغ، الذي يُجاوز الحد بالافراط.
[ 3 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
المعروفة بالشِّقْشِقِيَّة
[وتشتمل على الشكوى من أمر الخلافة ثم ترجيح صبره عنها ثم مبايعة الناس له]
أَمَا وَالله لَقَدْ تَقَمَّصَها(1) فُلانٌ، وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّيَ مِنهَا مَحَلُّ القُطْبِ مِنَ الرَّحَا، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ، وَلا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ، فَسَدَلْتُ(2) دُونَهَا ثَوْباً، وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً(3)، وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَد جَذَّاءَ(4)، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَة(5) عَمْيَاءَ، يَهْرَمُ فيهَا الكَبيرُ، وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ.
[ترجيح الصبر]
فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى(6)، فَصَبَرتُ وَفي الْعَيْنِ قَذىً، وَفي الحَلْقِ شَجاً(7)، أرى تُرَاثي(8) نَهْباً، حَتَّى مَضَى الاَْوَّلُ لِسَبِيلِهِ، فَأَدْلَى بِهَا(9)إِلَى فلان بَعْدَهُ.
ثم تمثل بقول الاعشى:
شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا(10) * وَيَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ
____________
1. تَقَمّصَها: لبسها كالقميص.
2. سَدَلَ الثوبَ: أرخاه.
3. طَوَى عنها كشحاً: مالَ عنها.
4. الجَذّاءُ ـ بالجيم والذال المعجمة ـ: المقطوعة.
5. طَخْيَة ـ بطاء فخاء بعدها ياء، ويثلّثُ أوّلها ـ: ظلمة.
6. أحجى: ألزم، من حَجِيَ بهِ كرَضيَ: أُولِعَ به ولَزِمَهُ.
7. الشّجَا: ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه.
8. التراث: الميراث. 9. أدْلَى بها: ألقى بها.
10. الكُور ـ بالضم ـ: الرّحْل أوهو مع أداته.
فَيَا عَجَباً!! بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُها(1) في حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لاخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ ـ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا(2) ! ـ فَصَيَّرَهَا في حَوْزَة خَشْنَاءَ، يَغْلُظُ كَلْمُهَا(3)، وَيَخْشُنُ مَسُّهَا، وَيَكْثُرُ العِثَارُ(4)[فِيهَا] وَالاْعْتَذَارُ مِنْهَا، فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ(5)، إِنْ أَشْنَقَ(6) لَهَا خَرَمَ(7)، وَإِنْ أَسْلَسَ(8) لَهَا تَقَحَّمَ(9)، فَمُنِيَ
____________
1. يَسْتَقِيلها: يطلب إعفاءه منها.
2. تشطرا ضرعيها: اقتسماه فأخذ كلّ منهما شطراً، والضرع للناقة كالثدي للمرأة.
3. كَلْمُها: جرحها، كأنه يقول: خشونتها تجرح جرحاً غليظاً.
4. العِثار: السقوط والكَبْوَةُ.
5. الصّعْبة من الابل: ما ليستْ بِذَلُول.
6. أشْنَقَ البعير وشنقه: كفه بزمامه حتى ألصق ذِفْرَاه (العظم الناتىء خلف الاذن) بقادمة الرحل.
7. خرم: قطع.
8. أسْلَسَ: أرخى.
9. تَقَحّمَ: رمى بنفسه في القحمة أي الهلكة.
النَّاسُ(1) ـ لَعَمْرُ اللهِ ـ بِخَبْط(2) وَشِمَاس(3)، وَتَلَوُّن وَاعْتِرَاض(4).
فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ، وَشِدَّةِ الْمحْنَةِ، حَتَّى إِذا مَضَى لِسَبِيلِهِ جَعَلَهَا في جَمَاعَة زَعَمَ أَنَّي أَحَدُهُمْ. فَيَاللهِ وَلِلشُّورَى(5)! مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الاْوَّلِ مِنْهُمْ، حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هذِهِ النَّظَائِرِ(6)! لكِنِّي أَسفَفْتُ(7) إِذْ أَسَفُّوا، وَطِرْتُ إِذْ طَارُوا، فَصَغَا(8) رَجُلُ مِنْهُمْ لِضِغْنِه(9)، وَمَالَ الاْخَرُ
____________
1. مُنيَ الناسُ: ابتُلُوا وأُصيبوا.
2. خَبْط: سير على غير هدى.
3. الشِّماس ـ بالكسر ـ: إباء ظَهْرِ الفرسِ عن الركوب.
4. الاعتراض: السير على غير خط مستقيم، كأنه يسير عَرْضاً في حال سيره طولاً.
5. أصل الشّورى: الاستشارة، وفي ذكرها هنا إشارة إلى الستة الذين عيّنَهم عمر ليختاروا أحدهم للخلافة.
6. النّظَائر: جمع نَظِير أي المُشابِه بعضهم بعضاً دونه.
7. أسَفّ الطائر: دنا من الارض.
8. صَغَى صَغْياً وَصَغَا صَغْواً: مالَ.
9. الضِّغْنُ: الضّغِينَة والحقد.
لِصِهْرهِ، مَعَ هَن وَهَن(1).
إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ القَوْمِ، نَافِجَاً حِضْنَيْهِ(2) بَيْنَ نَثِيلهِ(3) وَمُعْتَلَفِهِ(4)، وَقَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ(5) مَالَ اللهِ خَضْمَ الاْبِل نِبْتَةَ(6) الرَّبِيعِ، إِلَى أَنِ انْتَكَثَ عَلَيْهِ فَتْلُهُ(7)، وَأَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ(8)، وَكَبَتْ(9) بِهِ بِطْنَتُهُ(10).
____________
1. مع هَن وَهَن: أي أغراض أخرى أكره ذكرها.
2. نافجاً حضْنَيْه: رافعاً لهما، والحِضْن: ما بين الابط والكَشْح، يقال للمتكبر: جاء نافجاً حِضْنَيْه.
3. النّثِيلُ: الرّوْثُ وقذَر الدوابّ.
4. الـمُعْتَلَفُ: موضع العلف.
5. الخَضم: أكل الشيء الرّطْب.
6. النِّبْتَة ـ بكسر النون ـ: كالنبات في معناه.
7. انْتَكَثَ عليه فَتْلُهُ: انتقض.
8. أجهزَ عليه عملُه: تَمّمَ قتله.
9. كَبَتْ به: من كبابِه الجوادُ: إذا سقط لوجهه.
10. البِطْنَةُ ـ بالكسر ـ: البَطَرُ والاشَرُ والتّخْمة.
[مبايعة علي(عليه السلام)]
فَمَا رَاعَنِي إلاَّ وَالنَّاسُ إليَّ كَعُرْفِ الضَّبُعِ(1)، يَنْثَالُونَ(2) عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِب، حَتَّى لَقَدْ وُطِىءَ الحَسَنَانِ، وَشُقَّ عِطْفَايَ(3)، مُجْتَمِعِينَ حَوْلي كَرَبِيضَةِ الغَنَمِ(4).
فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالاَْمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ(5)، وَمَرَقَتْ أُخْرَى(6)، وَفَسَقَ [وقسط ]آخَرُونَ(7) كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: (تِلْكَ الدَّارُ الاخِرَةُ نَجْعَلُهَاِللَّذِينَ لاَ يُريدُونَ عُلُوّاً في الاَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، بَلَى! وَاللهِ لَقَدْ
____________
1. عُرْفُ الضّبُع: ماكثر على عنقها من الشعر، وهو ثخين يُضرب به المثل في الكثرة والازدحام.
2. يَنْثَالون: يتتابعون مزدحمين.
3. شُقّ عطفاه: خُدِشَ جانباه من الاصطكاك.
4. رَبيضَةُ الغنم: الطائفة الرابضة من الغنم.
5. نَكَثَتْ طَائفة: نَقَضَتْ عهدَها، وأراد بتلك الطائفة الناكثة أصحابَ الجمل وطلحةَ والزبيرَ خاصة.
6. مَرَقَتْ: خَرَجَتْ، وفي المعنى الديني: فَسَقَتْ، وأراد بتلك الطائفة المارقة الخوارج أصحاب النّهْرَوَان.
7. قَسَطَ آخرون: جاروا، وأراد بالجائرين أصحاب صفين.
سَمِعُوهَا وَوَعَوْهَا، وَلكِنَّهُمْ حَلِيَتَ الدُّنْيَا(1) في أَعْيُنِهمْ، وَرَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا(2)!
أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ(3)، لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ(4)، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ(5)، وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلَى العُلَمَاءِ أَلاَّ يُقَارُّوا(6) عَلَى كِظَّةِ(7) ظَالِم، وَلا سَغَبِ(8) مَظْلُوم، لاََلقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا(9)، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِها، وَلاََلفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْز(10)!
____________
1. حَلِيَتِ الدنيا: من حَليتِ المرأهُ إذا تزيّنَت بِحُلِيّها.
2. الزِبْرِجُ: الزينة من وَشْي أوجوهر.
3. النَسَمَة ـ محركة ـ: الروح وهي في البشر أرجح، وبَرَأها: خلقها.
4. أراد «بالحاضر» هنا: من حضر لِبَيْعَتِهِ.
5. أراد «بالناصر» هنا: الجيش الذي يستعين به على إلزام الخارجين بالدخول في البيعة الصحيحة.
6. ألاّ يُقَارّوا: ألاّ يوافقوا مُقرّين.
7. الكِظّةُ: ما يعتري الاكل من الثّقَلِ والكَرْب عند امتلاء البطن بالطعام، والمراد استئثار الظالم بالحقوق. 8. السَغَب: شدة الجوع، والمراد منه هضم حقوقه.
9. الغارب: الكاهلُ، والكلام تمثيلٌ للترك وإرسال الامر.
10. عَفْطَة العَنْز: ما تنثره من أنفها. وأكثر ما يستعمل ذلك في النعجة وإن كان الاشهر في الاستعمال «النّفْطَة» بالنون.
قالوا: وقام إِليه رجل من أهل السواد(1) عند بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته، فناوله كتاباً، فأقبل ينظر فيه، فلمّا فرغ من قراءته قال له ابن عباس: يا أميرالمؤمنين، لو اطَّرَدت مَقالتكَ(2) من حيث أَفضيتَ(3)! فَقَالَ(عليه السلام):
هَيْهَاتَ يَابْنَ عَبَّاس! تِلْكَ شِقْشِقَةٌ(4) هَدَرَتْ(5) ثُمَّ قَرَّتْ(6)!
قال ابن عباس: فوالله ما أَسفت على كلام قطّ كأَسفي على ذلك الكلام أَلاَّ يكون أميرالمؤمنين(عليه السلام)بلغ منه حيث أراد.
قوله (عليه السلام) في هذه الخطبة: «كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم» يريد: أنه إذا شدد عليها في جذب الزمام وهي تنازعه رأسها خرم أنفها، وإن أرخى لها شيئاً مع صعوبتها تقحمت به فلم يملكها، يقال: أشنق الناقة: إذا جذب رأسها بالزمام فرفعه، وشنقها أيضاً، ذكر ذلك ابن السكيت في «إصلاح المنطق».
وإنما قال(عليه السلام): «أشنق لها» ولم يقل: «أشنقها»، لانه جعله في مقابلة قوله: «أسلس لها»، فكأنه(عليه السلام)قال: إن رفع لها رأسها بالزمام يعني أمسكه عليها.
وفي الحديث: أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) خطب الناس وهو عل ناقة قد شنق لها وهي تقصع بجرّتها.
ومن الشاهد على أنّ أشنق بمعنى شنق قول عدي بن زيد العبادي:
ساءها ما بنا تبيّن في الايدي * وأشناقها إلى الاعناقِ
____________
1. السّوَاد: العراق، وسُمّيَ سواداً لخضرته بالزرع والاشجار، والعرب تسمي الاخضر أسود.
2. اطّرَدَتْ مقالتك: أُتْبِعَتْ بمقالة أُخرى، من اطّراد النهر إذا تتابع جَرْيُهُ.
3. أفْضَيْتَ: أصل أفضى: خرج إلى الفضاء، والمراد هنا سكوت الامام عماكان يريد قوله.
4. الشّقْشِقَةُ ـ بكسر فسكون فكسر ـ: شيء كالرّئَهِ يخرجه البعير من فيه إذا هاج.
5. هَدَرَتْ: أَطْلَقَتْ صوتاً كصوت البعير عند إخراج الشِقْشِقَةِ من فيه، ونسبة الهدير إليها نسبة إلى الالة.
6. قَرّتْ: سكنت وَهَدَأتْ.
[ 4 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[وهي من أفصح كلامه(عليه السلام)، وفيها يعظ الناس ويهديهم من ضلالتهم، ويقال: إنه خطبها بعد قتل طلحة والزبير]
بِنَا اهْتَدَيْتُمْ في الظَّلْمَاءِ، وَتَسَنَّمْتُمُ العلْيَاءَ(1)، وبِنَا انْفَجَرْتُم عَنِ السِّرَارِ(2)، وُقِرَ(3) سَمْعٌ لَمْ يَفْقَهِ الوَاعِيَةَ(4)، كَيْفَ يُرَاعِي النَّبْأَةَ(5) مَنْ أَصَمَّتْهُ الصَّيْحَةُ؟
____________
1. تَسَنّمْتم العلياءَ: ركبتم سَنامها، وارتقيتم إلى أعلاها.
2. السِّرار ـ ككتاب ـ: آخر ليلة في الشهر يختفي فيها القمر، وهو كناية عن الظلام.
3. وُقِرَ: صُمّ.
4. الواعية: الصارخة والصراخ نفسه، والمراد هنا العِبرَة والمواعظ الشديدة الاثر ووُقِرَتْ أُذُنُهُ فهي مَوْقُورة، وَوَقِرَت كسَمِعَتْ: صُمّتْ، دعاء بالصّمَم على من لم يفهم الزواجر والعبر.
5. النّبْأة: الصوت الخفي.
رُبِطَ جَنَانٌ(1) لَمْ يُفَارِقْهُ الخَفَقَانُ.
مَا زِلتُ أَنْتَظِرُ بِكُمْ عَوَاقِبَ الغَدْرِ، وَأَتَوَسَّمُكُمْ(2) بِحِلْيَةِ الـمُغْتَرِّينَ(3)، سَتَرَني عَنْكُمْ جِلْبَابُ الدِّينِ(4)، وَبَصَّرَنِيكُمْ صِدْقُ النِّيَّةِ، أَقَمْتُ لَكُمْ عَلَى سَنَنِ الحَقِّ في جَوَادِّ الـمَضَلَّةِ(5)، حيْثُ تَلْتَقُونَ وَلا دَلِيلَ، وَتَحْتَفِرُونَ وَلا تُميِهُونَ(6).
اليَوْمَ أُنْطِقُ لَكُمُ العَجْمَاءَ(7) ذاتَ البَيَان! عَزَبَ(8) رَأْيُ امْرِىء تَخَلَّفَ
____________
1. رُبط جنانه رِباطةً ـ بكسر الراء ـ: اشتدّ قلبه.
2. أتَوَسّمُكُم: أتَفَرّس فيكم.
3. حِلْيَةُ المغتَرّينَ: أصل الحِلْية الزينة، والمراد هنا صفة أهل الغرور.
4. جِلْبَاب الدّين: ما لبسوه من رسومه الظاهرة.
5. جَوَادّ الـمَضَلّة: الجوادّ جمع جادّة وهي الطريق. والمضَلّة ـ بفتح الضاد وكسرها ـ: الارض يضل سالكها.
6. تُميهُون: تجدون ماءً، من أماهوا أرْكِيَتَهُمْ: أنْبَطُوا ماءها.
7. العَجْماء: البهيمة، وقد شبه بها رموزه وإساراته لغموضها على من لا بصيرة لهم.
8. عَزَبَ: غاب، والمراد: لا رأي لمن تخلّف عني.
عَنِّي، مَا شَكَكْتُ في الحَقِّ مُذْ أُرِيتُهُ! لَمْ يُوجِسْ مُوسَى خِيفَةً(1) عَلَى نَفْسِهِ، أَشْفَقَ مِنْ غَلَبَةِ الجُهَّالِ وَدُوَلِ الضَّلالِ! اليَوْمَ تَوَاقَفْنَا(2) عَلَى سَبِيلِ الحَقِّ وَالباطِلِ، مَنْ وَثِقَ بِمَاء لَمْ يَظْمَأْ!
[ 5 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
لمّا قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله)
وخاطبه العباس وأبوسفيان في أن يبايعا له بالخلافة
[وذلك بعد أن تمّت البيعة لابي بكر في السقيفة، وفيها ينهى عن الفتنة ويبين عن خلقه وعلمه]
[النهي عن الفتنة]
أَيُّها النَّاسُ، شُقُّوا أَمْوَاجَ الفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجَاةِ، وَعَرِّجُوا عَنْ طَريقِ الـمُنَافَرَةِ، وَضَعُوا تِيجَانَ الـمُفَاخَرَةِ.
أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بِجَنَاح، أوِ اسْتَسْلَمَ فَأَراحَ، مَاءٌ آجِنٌ(3)، وَلُقْمَةٌ يَغَصُّ بِهَا آكِلُهَا، وَمُجْتَنِي الَّثمَرَةِ لِغَيْرِ وَقْتِ إِينَاعِهَا(4) كالزَّارعِ بِغَيْرِ أَرْضِهِ.
[خلقه وعلمه]
____________
1. لم يُوجِسْ موسى خِيفةً: لم يستشعر خوفاً، أخْذاً من قوله تعالى: (فأوْجَسَ في نَفْسِهِ خِيفةً موسى)
2. تَوَاقَفْنا: تلاقَيْنَا وتقابَلْنَا.
3. الاجِنُ: المتغير الطعم واللون، لا يستساغ، والاشارة إلى الخلافة.
4. إينَاعُها: نضجها وإدراك ثمرها.

فَإِنْ أقُلْ يَقُولُوا: حَرَصَ عَلَى الـمُلْكِ، وَإنْ أَسْكُتْ يَقُولُوا: جَزعَ(1) مِنَ المَوْتِ! هَيْهَاتَ(2) بَعْدَ اللَّتَيَّا وَالَّتِي(3)! وَاللهِ لاَبْنُ أَبي طَالِب آنَسُ بالمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْي أُمِّهِ، بَلِ انْدَمَجْتُ(4) عَلَى مَكْنُونِ عِلْم لَوْ بُحْتُ بِهِ لاَضْطَرَبْتُمُ اضْطِرَابَ الاَْرْشِيَةِ(5) في الطَّوِيِّ(6) البَعِيدَةِ!
[ 6 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
لمّا أشير عليه بألاّ يتبع طلحةَ والزبيرَ ولا يُرصدَ لهما القتال
[وفيه يبين عن صفته بأنه (عليه السلام) لا يخدع]
وَاللهِ لاَ أَكُونُ كالضَّبُعِ: تَنَامُ عَلى طُولِ اللَّدْمِ(7)، حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهَا طَالِبُهَا،
____________
1. جَزِعَ: خاف.
2. هَيْهات: بَعُدَ، والمراد نفي ما عساهم يظنون من جَزَعه من الموت عند سكوته.
3. بَعْدَ اللّتَيّا والتي: بعد الشدائد كبارها وصغارها.
4. اندَمَجْتُ: انطَوَيْتُ.
5. الارْشِيَة: جمع رِشاء بمعنى الحبل.
6. الطّوِيّ: جمع طويّة وهي البئر، والبئر البعيدة: العميقة.
7. اللّدْم: صوت الحجر أوالعصا أوغيرهما، تضرب به الارض ضرباً غير شديد.
وَيَخْتِلَهَا(1) رَاصِدُها(2)، وَلكِنِّي أَضْرِبُ بِالمُقْبِلِ إِلَى الحَقِّ المُدْبِرَ عَنْهُ، وَبِالسَّامِعِ المُطِيعِ العَاصِيَ المُريبَ(3) أَبَداً، حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيَّ يَوْمِي.
فَوَاللهِ مَا زِلتُ مَدْفُوعاً عَنْ حَقِّي، مُسْتَأْثَراً عَلَيَّ، مُنْذُ قَبَضَ اللهُ تعالى نَبِيَّهُ(صلى الله عليه وآله)حَتَّى يَوْمِ النَّاسِ هذَا.
[ 7 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[
يذم فيها أتباع الشيطان]
اتَّخَذُوا الشَّيْطَانَ لاَِمْرِهِمْ مِلاَكاً(4)، وَاتَّخَذَهُمْ لَهُ أَشْرَاكاً(5)، فَبَاضَ وَفَرَّخَ(6)في صُدُورِهِمْ، وَدَبَّ وَدَرَجَ(7) في حُجُورِهِمْ، فَنَظَرَ بِأَعْيُنِهِمْ، وَنَطَقَ
____________
1. يَخْتِلها: يخدعها.
2. رَاصِدها: صائدها الذي يترقبها.
3. المُرِيب: الذي يكون في حال الشك والرّيْب.
4. مِلاك الشيء ـ بكسر الميم وفتحها ـ: قوامه الذي يُمْلَكُ به.
5. الاشْراك: جمع شَرَكَ وهو ما يُصاد به، فكأنهم اَلة الشيطان في الاضلال.
6. باضَ وفرّخَ: كناية عن تَوَطّنِهِ صدورهم وطولِ مُكْثِهِ فيها، لان الطائر لا يبيض ألاّ في عشّه، وفراخ الشيطان: وَسَاوِسُهُ. 7. دَبّ و دَرَجَ: تربى في حُجُورهم كما يُرَبى الطفل في حجرِ والديه.
بِأَلسِنَتِهِمْ، فَرَكِبَ بِهِمُ الزَّلَلَ(1)، وَزَيَّنَ لَهُمُ الخَطَلَ(2)، فِعْلَ مَنْ قَدْ شَرِكَهُ(3) الشَّيْطَانُ في سُلْطَانِهِ، وَنَطَقَ بِالبَاطِلِ عَلى لِسَانِهِ!
[ 8 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
يعني به الزبير في حال اقتضت ذلك
[ويدعوه للدخول في البيعة ثانية]
يَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ بَايَعَ بِيَدِهِ، وَلَمْ يُبَايعْ بِقَلْبِهِ، فَقَدْ أَقَرَّ بِالبَيْعَةِ، وَادَّعَى الوَلِيجَةَ(4)، فَلْيَأْتِ عَلَيْهَا بِأَمْر يُعْرَفُ، وَإِلاَّ فَلْيَدخُلْ فِيَما خَرَجَ مِنْهُ.
[ 9 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
[
في صفته وصفة خصومه ويقال إنّها في أصحاب الجمل]
وقَدْ أَرْعَدُوا وَأبْرَقُوا(5)، وَمَعَ هذَيْنِ الاَْمْرَيْنِ الفَشَلُ(6)، وَلَسْنَا نُرْعِدُ حَتَّى
____________
1. الزّلَل: الغَلَط والخطأ.
2. الخَطَلُ: أقبح الخطأ.
3. شَرِكَهُ ـ كَعَلِمَهُ ـ: صار شريكاً له.
4. الوَليِجة: الدّخيلة وما يُضمر في القلب ويكتم.
5. أرْعَدُوا وأبْرَقُوا: أوْ عدُوا وتهَدّدُوا.
6. الفشل: الجُبْن والخور.
نُوقِعَ(1)، وَلا نُسِيلُ حَتَّى نُمْطِرَ.
[ 10 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[
يريد الشيطان أويكني به عن قوم]
أَلاَ وإنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ جَمَعَ حِزْبَهُ وَاسْتَجْلَبَ خَيْلَهُ وَرَجِلَهُ(2)، وإِنَّ مَعِي لَبَصِيرَتي.
مَا لَبَّسْتُ عَلَى نَفْسِي(3)، وَلاَ لُبِّسَ عَلَيَّ.
وَايْمُ اللهِ لاَُفْرِطَنَّ(4) لَهُمْ حَوْضاً أَنَا مَاتِحُهُ(5)! لاَ يَصْدِرُونَ عَنْهُ(6)، وَلاَ يَعُودُونَ إِلَيْهِ.
____________
1. لسنانُرعد حتى نُوقِع: لا نهدّد عدواً إلاّ بعد أن نوقع بعدُوٍّ آخر.
2. الرّجِلُ: جمع راجِل.
3. ما لَبّسْتُ على نفسي: ما أوقعتها في اللّبْس والابهام.
4. أفْرَطَ الحوْضَ: ملاه حتى فاض.
5. الماتِحُ: المُسْتَقي.
6. يُصْدِرون عنه: يعودون بعد الاستقاء.
[ 11 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
[
لابنه محمّد بن الحنفية لمّا أعطاه الراية يوم الجمل]
تَزُولُ الجِبَالُ وَلاَ تَزُلْ! عَضَّ عَلَى نَاجِذِكَ(1)، أَعِرِ(2) اللهَ جُمجُمَتَكَ، تِدْ(3) في الاَْرْضِ قَدَمَكَ، ارْمِ بِبَصَرِكَ أَقْصَى القَوْمِ، وَغُضَّ بَصَرَكَ(4)، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللهِ سُبْحَانَهُ.
[ 12 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
لمّا أظفره الله تعالى بأصحاب الجمل
وقد قال له بعض أصحابه:وددت أن أخي فلاناًمعك شاهداًليرى ما نصرك الله به علىأعدائك، فقال له عليه السلام   

أَهَوَى أَخِيكَ(5) مَعَنَا؟
قال: نَعَم.
قالَ: فَقَدْ شَهِدنَا، وَلَقَدْ شَهِدَنَا في عَسْكَرِنَا هذَا أَقْوَامٌ في أَصْلاَبِ الرِّجَالِ، وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ، سَيَرْعُفُ بِهِمُ الزَّمَانُ(6)، ويَقْوَى بِهِمُ الاْيمَانُ.
____________
1. النّاجِذُ: أقصى الضّرْس، وجمعه نواجذ، وإذا عَضّ الرجل على أسنانه اشتدّت حَمِيّتُهُ.
2. أعِرْ: أمر من أعار، أي ابذل جمجمتك لله تعالى كما يبذل المعير ماله للمستعير.
3. بِدْ قَدَمَكَ: ثَبّتْها، من وَتَدَيَتِدُ. 4. غضّ النظر: كفّهُ، والمراد هنا: لا يَهُولَنّكَ منهم هائلٌ.
5. هوى أخيك: أي ميلُهُ ومحبته.
6. يَرْعُفُ بهم الزمان: يجود على غير انتظار كما يجود الانفُ بالرّعاف.
[ 13 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
في ذم البصرة وأهلها [بعد وقعة الجمل]
كُنْتُمْ جُنْدَ الْمَرْأَةِ، وَأَتْبَاعَ البَهِيمَةِ(1)، رَغَا(2) فَأَجَبْتُم، وَعُقِرَ(3) فَهَرَبْتُمْ.
أَخْلاَقُكُمْ دِقَاقٌ(4)، وَعَهْدُكُمْ شِقَاقٌ، وَدِيْنُكُمْ نِفَاقٌ، وَمَاؤُكُمْ زُعَاقٌ(5).
المُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مُرْتَهَنٌ(6) بِذَنْبِهِ، وَالشَّاخِصُ عَنْكُمْ مُتَدَارَكٌ بِرَحْمة مِنْ رَبِّهِ.
كَأَنِّي بِمَسْجِدكُمْ كَجُؤْجُؤِ سَفِينَة(7)، قَدْ بَعَثَ اللهُ عَلَيْها العَذَابَ مِنْ فَوْقِها وَمِنْ تَحتِها، وَغَرِقَ مَنْ في ضِمْنِها.
____________
1. أتْباع البهيمة: يريد بالبهيمة الجمل، وقصته مشهورة.
2. رَغَا الجملُ: أطلق رُغاءه، وهو صوته المعروف.
3. عُقِر الجملُ: جرح أو ضربت قوائمه، أوذبح.
4. أخْلاقكم دِقاقٌ: دنيئة.
5. زُعاق: مالح.
6. مُرْتَهَنٌ: من الارتهان والرهن، والمراد: مؤاخذ.
7. جُؤْجُؤُ السفينةِ: صدرُها، وأصل الجُؤجُؤ: عَظْمُ الصدرِ.
وفي رواية: وَأيْمُ اللهِ لَتَغْرَقَنَّ بَلْدَتُكُمْ حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلى مَسْجِدِهَا كَجُؤْجُؤِ سَفِينَة، أَوْ نَعَامَة جَاثِمَة(1).
وفي رواية أخرى: كَجُؤْجُؤِ طَيْر في لُجَّةِ بَحْر(2).
[ 14 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
في مثل ذلك
أرْضُكُمْ قَرِيبَةٌ مِنَ المَاءِ، بَعِيدَةٌ مِنَ السَّماءِ، خَفَّتْ عُقُولُكُمْ، وَسَفِهَتْ حُلُومُكُمْ(3)، فَأَنْتُمْ غَرَضٌ(4) لِنَابِل(5)، وَأُكْلَةٌ لاِكِل، وَفَرِيسَةٌ لِصائِد.
[ 15 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
فيما ردّه على المسلمين من قطائع عثمان(6)
وَاللهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ، وَمُلِكَ بِهِ الاْمَاءُ، لَرَدَدْتُهُ; فَإِنَّ في العَدْلِ سَعَةً، وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ العَدْلُ، فَالجَوْرُ عَلَيْهِ أَضيَقُ!
____________
1. جَاثِمةٌ: واقعةٌ على صدرها.
2. لُجّةُ البحر ـ وجمعها لُجَجٌ ـ: مَوْجُهُ.
3. سَفِهَت حلومُكُم: سَفِهَتْ: صارتْ سَفِيهة، بها خِفّة وطيش، وحُلُومُكم: جمع حِلْم وهو العقل، فهي كالعبارة قبلها: خَفّت عقولكم.
4. الغَرَض: ما يُنْصَبُ ليرمى بالسهام.
5. النّابِلُ: الضارب بالنّبْلِ.
6. قَطائِعُ عثمان: ما منحه للناس من الاراضي، وكان الاصل فيها أن تنفق غلتها على أبناء السبيل وأشباههم كقطائعه لمعاوية ومروان.
[ 16 ]
من كلام له (عليه السلام)
لمّا بويع بالمدينة
[وفيها يخبر الناس بعلمه بما تؤول إليه أحوالهم وفيها يقسمهم إلى أقسام]
ذِمَّتي(1) بِمَا أَقُولُ رَهِينَةٌ(2) وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ(3): إِنَّ مَنْ صَرَّحَتْ لَهُ العِبَرُ(4) عَمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ المَثُلاتِ(5)، حَجَزَهُ(6) التَّقْوَى عَنْ تَقَحُّمِ الشُّبُهَاتِ(7).
____________
1. الذّمّة: العهد.
2. رهينة: مرهونة، من الرهن.
3. الزعيم: الكفيل، يريد أنه ضامن لصدق ما يقول.
4. العِبَر ـ بكسر فتح ـ: جمع عِبرة، بمعنى الموعظة.
5. المَثُلاَتُ: العُقوبات.
6. حجزه: منعه.
7. تَقَحُّمُ الشّبُهَات: التّرَدّي فيها.
أَلاَ وَإِنَّ بَلِيَّتَكُمْ قَدْ عَادَتْ كَهَيْئَتِهَا(1) يَوْمَ بَعَثَ اللهُ نَبِيَّهُ(صلى الله عليه وآله)، وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالحَقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ(2) بَلْبَلَةً، وَلَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً(3)، وَلَتُسَاطُنَّ(4) سَوْطَ)القِدْرِ(5)، حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلاَكُمْ، وَأَعْلاَكُمْ أَسْفَلَكُمْ، وَلَيَسْبِقَنَّ سَابِقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا، وَلَيُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا.
وَاللهِ مَا كَتَمْتُ وَشْمَةً(6)، وَلا كَذَبْتُ كِذْبَةً، وَلَقَدْ نُبِّئْتُ بِهذا المَقامِ وَهذَا اليَوْمِ.
أَلاَ وَإِنَّ الخَطَايَا خَيْلٌ شُمُسٌ(7) حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُها، وَخُلِعَتْ لُجُمُهَا(8)،
____________
1. عادت كهيئتها: رجعت إلى حالها الاُولى.
2. لَتُبَلْبَلُنّ: لَتُخْلَطُنّ، ومنه «تَبَلْبَلَتِ الالسُنُ»: اختلطت.
3. لَتُغَرْبَلُنّ: لتمّيزنّ كما يميّز الدقيق عند الغربلة من نخالته.
4. لَتُسَاطُنّ: من السّوط، وهو أن تجعل شيئين في الاناء وتضربهما بيديك حتى يختلطا.
5. سَوْط القِدْر: أي كما تختلط الابْزَارُ ونحوها في القدر عند غليانه فينقلب أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها، وكل ذلك حكاية عما يأولون إليه من الاختلاف، وتقطع الارحام، وفساد النظام.
6. الوَشْمَةُ: الكلمة.
7. الشُمُسُ: جمع شَمُوس وهي من «شَمَسَ» كنصر أي منع ظهره أن يُرْكَبَ.
8. لُجُمُها: جمع لِجام، وهو عنان الدّابة الذي تُلجم به.
فَتَقَحَّمَتْ بِهِمْ في النَّارِ(1).
أَلاَ وَإِنَّ التَّقْوَى مَطَايَا ذُلُلٌ(2)، حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا، وَأُعْطُوا أَزِمَّتَها، فَأَوْرَدَتْهُمُ الجَنَّةَ.
حَقٌّ وَبَاطِلٌ، وَلِكُلٍّ أَهْلٌ، فَلَئِنْ أَمِرَ البَاطِلُ لَقَدِيماً فَعَلَ، وَلَئِنْ قَلَّ الحقُّ لَرُبَّما وَلَعَلَّ، وَلَقَلَّمَا أَدْبَرَ شَيءٌ فَأَقْبَلَ!
وأقول: إنّ في هذا الكلام الادنى من مواقع الاحسان ملا تبلغه مواقع الاستحسان، وإنّ حظ العجب منه أكثر من حظ العُجب به، وفيه ـ مع الحال التي وصفنا ـ زوائد من الفصاحة لا يقوم بها لسان، ولا يَطَّلع فَجها(3) إنسان، ولا يعرف ما أقوله إلاّ من ضرب في هذه الصناعة بحق، وجرى فيها على عرق(4)،)وَمَا يَعْقِلُهَا إلاّ العَالمِونَ).
ومن هذه الخطبة
[
وفيها يقسّم الناس إلى ثلاثة أصناف]
شُغِلَ مَنِ الجَنَّةُ وَالنَّارُ أَمَامَهُ! سَاع سَرِيعٌ نَجَا، وَطَالِبٌ بَطِيءٌ رَجَا، وَمُقَصِّرٌ في النَّارِ هَوَى.
____________
1. تقحمت بهم في النار: أردتهم فيها.
2. الذُلُل: جمع ذَلول، وهي المُرَوّضَةُ الطائعة.
3. لا يَطّلع فَجَّهَا: من قولهم اطّلَعَ الارض أي بلغها. والفجّ: الطريق الواسع بين جَبَلَيْنِ.
4. العِرْق: الاصل.
الَيمِينُ وَالشِّمالُ مَضَلَّةٌ، وَالطَّرِيقُ الوُسْطَى هِيَ الجَادَّةُ(1)، عَلَيْهَا بَاقي الكِتَابِ وَآثَارُ النُّبُوَّةِ، وَمِنْهَا مَنْفَذُ السُّنَّةِ، وَإلَيْهَا مَصِيرُ العَاقِبَةِ.
هَلَكَ مَنِ ادَّعى، وَخَابَ مَنِ افْتَرَى، مَنْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ لِلْحَقِّ هَلَكَ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلاً أَلاَّ يَعْرِفَ قَدْرَهُ، لاَيَهْلِكُ عَلَى التَّقْوَى سِنْخُ(2) أَصْل، وَلاَ يَظْمَأُ عَلَيْهَا زَرْعُ قَوْم.
فَاسْتَتِرُوا بِبُيُوتِكُمْ، وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ، وَالتَّوْبَةُ مِنْ وَرَائِكُمْ، وَلاَ يَحْمَدْ حَامِدٌ إِلاَّ رَبَّهُ، وَلاَ يَلُمْ لاَئِمٌ إِلاَّ نَفْسَهُ.
[ 17 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
في صفة من يتصدّى للحكم بين الاْمة وليس لذلك بأَهل
إِنَّ أَبْغَضَ الخَلائِقِ إِلَى اللهِ تعالى رَجُلانِ: رَجُلٌ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى نَفْسِهِ(3)، فَهُوَ جَائِرٌ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ(4)، مَشْغُوفٌ(5) بِكَلاَمِ بِدْعَة(6)، وَدُعَاءِ ضَلاَلَة، فَهُوَ
____________
1. الجادّة: الطريق.
2. السِّنْخُ: المثبّت، يقال: ثبتت السنّ في سِنْخِها: أي منبتها.
3. وكله الله إلى نفسه: تركه ونفسَهُ.
4. جَائرٌ عن قصد السبيل ـ هنا ـ: عادل عن جادّتهِ.
5. المشغوف بشيء: المولع به حتى بلغ حبه شغاف قلبه، وهو غلافه.
6. كلام البِدْعة: ما اخترعته الاهواء ولم يعتمد على ركن من الحق ركين.
فِتْنَةٌ لَمِنِ افْتَتَنَ بِهِ، ضَالٌّ عَنْ هَدْي مَنْ كَانَ قَبْلَهُ، مُضِلُّ لِمَنِ اقْتَدَى بِهِ في حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ، حَمَّالٌ خَطَايَا غَيْرِهِ، رَهْنٌ بِخَطِيئَتِهِ(1).
وَرَجُلٌ قَمَشَ جَهْلاً(2)، مُوضِعٌ في جُهَّالِ الاُْمَّةِ(3)، غادر في أَغْبَاشِ(4) الفِتْنَةِ، عِم(5) بِمَا في عَقْدِ الهُدْنَةِ(6)، قَدْ سَمَّاهُ أَشْبَاهُ النَّاسِ عَالمِاً وَلَيْسَ بِهِ، بَكَّرَ فَاسْتَكْثَرَ مِنْ جَمْع، مَا قَلَّ مِنْهُ خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ، حَتَّى إِذَا ارْتَوَى مِنْ مَاء آجِن(7)، وَأكْثَر مِن غَيْرِ طَائِل(8)، جَلَسَ بَيْنَ النَّاسِ قَاضِياً ضَامِناً لِتَخْلِيصِ(9) مَا التَبَسَ عَلَى غيْرِهِ(10)، فَإِنْ نَزَلَتْ بِهِ إِحْدَى المُبْهَمَاتِ هَيَّأَ لَهَا
____________
1. رَهْنٌ بخطيئته: لا مخرج له منها.
2. قَمَشَ جهلاً: جمعه، وأصل القَمْش: جمع المتفرق.
3. مُوضِعٌ في جُهّالِ الامّة: مسرع فيها بالغش والتغرير، أوضع البعير: أسرع، وأوضعه راكبه فهو مُوضِعٌ به أي مسرع به.
4. أغباش: جمع غَبَش بالتحريك، وأغباش الليل: بقايا ظلمته. 5. عَم: وصف من العمى، والمراد: جاهل.
6. عَقْدُ الهُدنة: الاتفاق على الصلح والمسالمة بين الناس.
7. الماءُ الاجِنُ: الفاسد المتغير اللون والطعم.
8. غير طائل: دونٌ، خسيسٌ.
9. التخليص: التبيين. 10. التبسَ على غيره: اشتَبَهَ عليه.
حَشْواً(1) رَثّاً(2) مِنْ رَأْيِهِ، ثُمَّ قَطَعَ بِهِ، فَهُوَ مِنْ لَبْسِ الشُّبُهَاتِ في مِثْلِ نَسْجِ العَنْكَبُوتِ: لاَ يَدْرِي أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ، إنْ أَصَابَ خَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْطَأَ، وَإِنْ أَخْطَأَ رَجَا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَ.
جَاهِلٌ خَبَّاطُ(3) جَهلات، عَاش(4) رَكَّابُ عَشَوَات(5)، لَمْ يَعَضَّ عَلَى العِلْمِ بِضِرْس قَاطِع، يُذرِي الرِّوَايَاتِ إذْراءَ الرِّيحِ الهَشِيمَ(6)، لاَ مَلِيٌ(7) ـ وَاللهِ ـ بِإِصْدَارِ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ، وَلاَ هُوَ أَهْلٌ لِما فُوّضَ إليه، لاَ يَحْسَبُ العِلْمَ في شيْء مِمَّا أَنْكَرَهُ، وَلاَ يَرَى أَنَّ مِنْ وَرَاءِ مَا بَلَغَ منه مَذْهَباً لِغَيْرهِ، وَإِنْ أَظْلَمَ عَلَيْهِ أَمْرٌ اكْتَتَمَ بِهِ(8) لِمَا يَعْلَمُ مِنْ جَهْلِ نَفْسِهِ، تَصْرُخُ مِنْ جَوْرِ قَضَائِهِ
____________
1. الحَشْوُ: الزائد الذي لا فائدة فيه.
2. الرّثّ: الخَلَقُ البالي، ضد الجديد. 3. خَبّاط: صيغة المبالغة من خبط الليل إذا سار فيه على غير هدى.
4. عاش: خابط في الظلام.
5. العَشَوَات: جمع عَشوَة ـ مثلثة الاول ـ وهي ركوب الامر على غير هدى.
6. الهَشِيمُ: ما يَبِسَ من النّبْتِ وتهشّمَ وَتَفَتّتَ.
7. المَلِيّ بالشيء: القَيّمُ به الذي يجيد القيام عليه.
8. اكتتم به: فوّض إليه: كتمه وستره لما يعلم من جهل نفسه.
الدِّمَاءُ، وَتَعَجُّ مِنْهُ المَوَارِيثُ(1).
إِلَى اللهِ أَشْكُو مِنْ مَعْشَر يَعِيشُونَ جُهَّالاً، وَيَمُوتُونَ ضُلاَّلاً، لَيْسَ فِيهمْ سِلْعَةٌ أَبْوَرُ(2) مِنَ الكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلاَوَتِهِ، وَلاَ سِلْعَةٌ أَنْفَقُ(3) بَيْعاً وَلاَ أَغْلَى ثَمَناً مِنَ الكِتَابِ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَلاَ عِنْدَهُمْ أَنْكَرُ مِنَ المَعْرُوفِ، وَلاَ أَعْرَفُ مِنَ المُنكَرِ!
[ 18 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
في ذمّ اختلاف العلماء في الفتيا
[وفيه يذم أهل الرأي ويكل أمر الحكم في أمور الدين للقرآن]
تَرِدُ عَلَى أحَدِهِمُ القَضِيَّةُ في حُكْم مِنَ الاْحْكَامِ فَيَحْكُمُ فِيهَا بِرَأْيِهِ، ثُمَّ تَرِدُ تِلْكَ القَضِيَّةُ بِعَيْنِهَا عَلَى غَيْرِهِ فَيَحْكُمُ فِيها بِخِلافِ قَوْلِهِ، ثُمَّ يَجْتَمِعُ القُضَاةُ بِذلِكَ عِنْدَ إمامِهِم الَّذِي اسْتَقْضَاهُم(4)، فَيُصَوِّبُ آرَاءَهُمْ جَمِيعاً، وَإِلهُهُمْ وَاحِدٌ! وَنَبِيُّهُمْ وَاحِدٌ! وَكِتَابُهُمْ وَاحِدٌ!
____________
1. العَجّ: رفع الصوت، وعجّ المواريث هنا: تمثيل لحدّةِ الظلم وشدّة الجَوْر.
2. أبْوَرُ: من بَارَتِ السّلْعة: كَسَدَتْ.
3. أنْفَقُ: من النّفاق ـ بالفتح ـ وهو الرّواج.
4. الامام الذي استقضاهم: الذي ولاّهم القضاء.
أَفَأَمَرَهُمُ اللهُ ـ سُبْحَانَهُ ـ بِالاخْتلاَفِ فَأَطَاعُوهُ! أَمْ نَهَاهُمْ عَنْهُ فَعَصَوْهُ! أَمْ أَنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ دِيناً نَاقِصاً فَاسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى إِتْمَامِهِ! أَمْ كَانُوا شُرَكَاءَ لَهُ فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا وَعَلَيْهِ أَنْ يَرْضِى؟ أَمْ أَنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ دِيناً تَامّاً فَقَصَّرَ الرَّسُولُ(صلى الله عليه وآله) عَنْ تَبْلِيغِهِ وَأَدَائِهِ؟ وَاللهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: (مَا فَرَّطْنَا في الكِتَابِ مِنْ شَيْء) وَفِيهِ تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْء، وَذَكَرَ أَنَّ الكِتَابَ يُصَدِّقُ بَعْضاً، وَأَنَّهُ لاَ اخْتِلافَ فِيهِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).
وَإِنَّ القُرآنَ ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ(1)، وَبَاطِنُهُ عَمِيقٌ، لاَ تَفْنَى عَجَائِبُهُ، وَلاَتَنْقَضِي غَرَائِبُهُ، وَلاَ تُكْشَفُ الظُّلُمَاتُ إلاَّ بِهِ.
[ 19 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
قاله للاشعث بن قيس وهو على منبر الكوفة يخطب
فمضى في بعض كلامه شيء اعترضه الاشعث، فقال: يا أميرالمؤمنين، هذه عليك لا لك، فخفض(عليه السلام) إليه بصره ثم قال:
ومَا يُدْرِيكَ مَا عَلَيَّ مِمَّا لِي؟ عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللهِ وَلَعْنَةُ اللاَّعِنِينَ! حَائِكٌ ابْنُ حَائِك! مُنَافِقٌ ابْنُ كُافِر! وَاللهِ لَقَدْ أَسَرَكَ الكُفْرُ مَرَّةً وَالاسْلامُ أُخْرَى! فَمَا فَداكَ مِنْ وَاحِدَة مِنْهُمَا مَالُكَ وَلاَ حَسَبُكَ! وَإِنَّ امْرَأً دَلَّ عَلَى قَوْمِهِ السَّيْفَ، وَسَاقَ إِلَيْهِمُ الحَتْفَ، لَحَرِيٌّ أَنْ يَمقُتَهُ الاْقْرَبُ، وَلاَ يَأْمَنَهُ الاْبْعَدُ!
____________
1. أنيق: حسن مُعْجِبٌ (بأنواع البيان)، وآنقني الشيء: أعجبني.

يريد(عليه السلام): أنه أُسر في الكفر مرة وفي الاِسلام مرة.
وأما قوله: «دل على قومه السيف»، فأراد به: حديثاً كان للاشعث مع خالد بن الوليد باليمامة، غرّ فيه قومه ومكر بهم حتى أوقع بهم خالد، وكان قومه بعد ذلك يسمونه «عُرْفَ النار»، وهو اسم للغادر عندهم.
[ 20 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[
وفيها ينفر من الغفلة وينبه إلى الفرار لله]
فَإِنَّكُمْ لَوْ عَايَنْتُمْ مَا قَدْ عَايَنَ مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ لَجَزِعْتُمْ وَوَهِلْتُمْ(1)، وَسَمِعْتُمْ وَأَطَعْتُمْ، وَلكِنْ مَحْجُوبٌ عَنْكُمْ مَا عَايَنُوا، وَقَرِيبٌ مَا يُطْرَحُ الحِجَابُ! وَلَقَدْ بُصِّرْتُمْ إِنْ أَبْصَرْتُمْ، وَأُسْمِعْتُمْ إِنْ سَمِعْتُمْ، وَهُدِيتُمْ إِنِ اهْتَدَيْتُمْ، وَبِحَقٍّ أَقَولُ لَكُمْ: لَقَدْ جَاهَرَتْكُمُ العِبَرُ(2)، وَزُجِرْتُمْ بِمَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ، وَمَا يُبَلِّغُ عَنِ اللهِ بَعْدَ رُسُلِ السَّماءِ(3) إِلاَّ البَشَرُ.
____________
1. الوَهَلُ: الخوف والفزع، من وَهِلَ يَوْهَلُ.
2. جَاهَرَتْكُمُ العِبَرُ: انتصبت لتنبهكم جهراً وصرحت لكم بعواقب أُموركم، والعِبر جمع عِبْرَة، والعِبرة: الموعظة.
3. رُسُلُ السماء: الملائكة.
[ 21 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[
وهي كلمة جامعة للعظة والحكمة]
فإِنَّ الغَايَةَ أَمَامَكُمْ، وَإِنَّ وَرَاءَكُمُ السَّاعَةَ(1) تَحْدُوكُمْ(2)، تَخَفَّفُوا(3) تَلْحَقوا، فَإنَّمَا يُنْتَظَرُ بِأوَّلِكُمْ آخِرُكُمْ.
وأقول: إنّ هذا الكلام لو وزن بعد كلام الله سبحانه وكلام رسوله(صلى الله عليه وآله) بكل كلام لمال به راجحاً، وبرّز عليه سابقاً.
فأما قوله (عليه السلام): «تخففوا تلحقوا»، فما سمع كلام أقل منه مسموعاً ولا أكثر منه محصولاً، وما أبعد غورها من كلمة! وأنقع(4) نطفتها(5) من حكمة! وقد نبهنا في كتاب «الخصائص» على عظم قدرها وشرف جوهرها.
[ 22 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[
حين بلغه خبر الناكثين ببيعته]
[وفيها يذم عملهم ويلزمهم دم عثمان ويتهدّدهم بالحرب]
[ذم الناكثين]
أَلاَ وإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ ذَمَّرَ حِزْبَهُ(6)، وَاسْتَجْلَبَ جَلَبَهُ(7)، لِيَعُودَ الجَوْرُ إِلَى أَوْطَانِهِ، وَيَرْجِعَ البِاطِلُ إِلَى نِصَابِهِ(8)، وَاللهِ مَا أَنْكَرُوا عَلَيَّ مُنْكَراً، وَلاَ جَعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ نَصِفاً(9).
____________
1. الساعة: يوم القيامة.
2. تحدوكم: تَسُوقكم إلى ما تسيرون عليه.
3. تَخَفّفَوا: المراد هنا التخففُ من أوزار الشهوات.
4. أنْقَع: من قولهم: «الماء ناقع ونقيع» أي ناجع، أي إطفاء العطش.
5. النُّطْفة: الماء الصافي.
6. ذَمّرَ حِزْبَهُ: حثهم وحضّهم، وهو بالتشديد أدلّ على التكثير، ويروى مخففاً أيضاً من باب ضرب ونصر.
7. الجَلَب ـ بالتحريك ـ: ما يُجلب من بلد إلى بلد، وهو فعلٌ بمعنى مفعول مثل سَلَب بمعنى مسلوب، والمراد هنا بقوله و«استجلب جَلَبَه» جمع جماعته، كقوله «ذَمّرَ حزبه». 8. النِّصَاب ـ بكسر النون ـ: الاصل أوالمنبت وأول كل شيء.
9. النّصِف ـ بالكسر ـ: المنصف، أي: لم يحكّموا رجلاً عادلاً بيني وبينهم.
[ذم عثمان]
وَإِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَكُوهُ، وَدَماً هُمْ سَفَكُوهُ، فَلَئِنْ كُنْتُ شَرِيكَهُمْ فِيهِ فَإِنَّ لَهُمْ لَنَصِيبَهُمْ مِنْهُ، وَلَئِنْ كَانُوا وَلُوهُ دُوني، فَمَا التَّبِعَةُ إِلاَّ عِنْدَهُمْ، وَإِنَّ أَعْظَمَ حُجَّتِهِمْ لَعَلَى أَنْفُسِهِمْ، يَرْتَضِعُونَ أُمّاً قَدْ فَطَمَتْ(1)، وَيُحْيُونَ بِدْعَةً قَدْ أُمِيتَتْ.
يا خَيْبَةَ الدَّاعِي! مَنْ دَعَا! وَإِلاَمَ أُجِيبَ! وَإِنِّي لَرَاض بِحُجَّةِ اللهِ عَلَيْهِمْ وَعِلْمِهِ فِيهمْ.
[التهديد بالحرب]
فَإِنْ أَبَوْا أَعْطَيْتُهُمْ حَدَّ السَّيْفِ، وَكَفَى بِهِ شَافِياً مِنَ البَاطِلِ، وَنَاصَراً لِلْحَقِّ!
____________
1. أُمّاً قد فَطَمَتْ: أي تَركت إرضاع ولدها بعد أن ذهب لبنها، يشبّه به طلَب الامر بعد فواته.
وَمِنَ العَجَبِ بَعْثُهُمْ إِلَيَّ أَنْ أَبْرُزَ لِلطِّعَانِ! وَأَنْ أصْبِرَ لِلْجِلادِ! هَبِلَتْهُمُ(1)الهَبُولُ(2)! لَقَدْ كُنْتُ وَمَا أُهَدَّدُ بِالحَرْبِ، وَلاَ أُرَهَّبُ بِالضَّرْبِ! وَإِنِّي لَعَلَى يَقِين مِنْ رَبِّي، وَغَيْرِ شُبْهَة مِنْ دِيني.
[ 23 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[
وتشتمل على تهذيب الفقراء بالزهد وتأديب الاغنياء بالشفقة]
[تهذيب الفقراء]
أمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الاَْمْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ إِلَى الاَْرْضِ كَقَطر المَطَرِ إِلَى كُلِّ نَفْس بِمَا قُسِمَ لَهَا مِنْ زِيَادَة أَوْ نُقْصَان، فإذا رَأَى أَحَدُكُمْ لاَِخِيهِ غَفِيرَةً(3) في أَهْل أَوْ مَال أَوْ نَفْس فَلاَ تَكُونَنَّ لَهُ فِتْنَةً، فَإِنَّ المَرْءَ المُسْلِمَ مَا لَمْ يَغْشَ دَنَاءَةً تَظْهَرُ فَيَخْشَعُ لَهَا إِذَا ذُكِرَتْ، وَيُغْرَى بهَا لِئَامُ النَّاسِ، كانَ كَالفَالِجِ(4) اليَاسِرِ(5) الَّذِي يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَة مِنْ قِدَاحِهِ تُوجِبُ لَهُ المَغْنَمَ، وَيُرْفَعُ عَنْهُ
____________
1. هَبِلَتْهُمْ: ثَكِلَتْهُمْ.
2. الهَبُول ـ بفتح الهاء ـ: المرأة التي لا يبقى لها ولد، وهو دعاء عليهم بالموت.
3. غفيرة: زيادة وكثرة.
4. الفالج: الظافر، فَلَجَ يَفْلُجُ ـ كنصر ينصر ـ: ظفر وفاز، ومنه المثل: «من يأتِ الحكم وحده يَفْلُجُ».
5. الياسر: الذي يلعب بقِداح المسير أي: المقامر، وفي الكلام تقديم وتأخير، ونَسَقُهُ: كالياسر الفالج، كقوله تعالى: (وغرابيب سُود)، وحَسّنَهُ أن اللفظتين صفتان، وإن كانت إحداهما إنّما تأتي بعد الاخرى إذا صاحبتها.
بها المَغْرَمُ.
وَكَذْلِكَ المَرْءُ المُسْلِمُ البَرِيءُ مِنَ الخِيَانَةِ يَنْتَظِرُ مِنَ اللهِ إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ: إِمَّا دَاعِيَ اللهِ فَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لَهُ، وَإِمَّا رِزْقَ اللهِ فَإِذَا هُوَ ذُوأَهْل وَمَال، وَمَعَهُ دِينُهُ وَحَسَبُهُ.
إِنَّ المَالَ وَالبَنِينَ حَرْثُ الدُّنْيَا، والعَمَلَ الصَّالِحَ حَرْثُ الاْخِرَةِ، وَقَدْ يَجْمَعُهُمَا اللهُ لاَِقْوَام، فَاحْذَرُوا مِنَ اللهِ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ، وَاخْشَوْهُ خَشْيَةً لَيْسَتُ بَتَعْذِير(1)، وَاعْمَلُوا في غَيْرِ رِيَاء وَلاَ سُمْعَة; فَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ لِغَيْرِ اللهِ يَكِلْهُ اللهُ(2) إِلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ.
نَسْأَلُ اللهَ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَمُعَايَشَةَ السُّعَدَاءِ، وَمُرَافَقَةَ الاَْنْبِيَاءِ.
[تأديب الاغنياء]
أَيُّهَا النّاسُ، إِنَّهُ لاَ يَسْتَغْنِي الرَّجُلُ ـ وَإِنْ كَانَ ذَا مَال ـ عَنْ عَشِيرَتِهِ، وَدِفَاعِهِمْ عَنْهُ بِأَيْدِيهِمْ وَأَلسِنَتِهمْ، وَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ حَيْطَةً(3) مِنْ وَرَائِهِ وَأَلَمُّهُمْ لِشَعَثِهِ(4)، وَأَعْطَفُهُمْ عَلَيْهِ عِنْدَ نَازِلَة إنْ نَزَلَتْ بِهِ. وَلِسَانُ الصِّدْقِ(5) يَجْعَلُهُ اللهُ لِلْمَرْءِ في النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ المَالِ: يُورِثُهُ غيرَهُ.
____________
1. التعذير ـ مصدر عذّرَ تَعْذيراً ـ: لم يثبُتْ له عُذْر.
2. يَكِلُه الله: يتركه، من وَكَلَ يَكِلُ: مثل وزن يزن.
3. حَيْطة ـ كبيعة ـ: رعاية وكلاءة.
4. الشَعَث ـ بالتحريك ـ: التفرق والانتشار.
5. لسان الصدق: حُسْنُ الذكر بالحق.
منها:
أَلاَ لاَيَعْدِلَنَّ أَحَدُكُمْ عَنِ القَرَابِةِ يَرَى بِهَا الخَصَاصَةَ(1) أنْ يَسُدَّهَا بِالَّذِي لايَزِيدُهُ إِنْ أَمْسَكَهُ وَلاَ يَنْقُصُهُ إِنْ أَهْلَكَهُ(2)، وَمَنْ يَقْبِضْ يَدَهُ عَنْ عَشِيرَتِهِ، فَإِنَّمَا تُقْبَضُ مِنْهُ عَنْهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ، وَتُقْبَضُ مِنْهُمْ عَنْهُ أَيْد كَثِيرَةٌ; وَمَنْ تَلِنْ حَاشِيَتُهُ يَسْتَدِمْ مِنْ قَوْمِهِ المَوَدَّةَ.
وما أحسن المعنى الذي أراده(عليه السلام) بقوله: «ومن يقبض يده عن عشيرته...» إلى تمام الكلام، فإن الممسك خيره عن عشيرته إنما يمسك نفع يد واحدة; فإذا احتاج إلى نصرتهم، واضطر إلى مرافدتهم(3)، قعدوا عن نصره، وتثاقلوا عن صوته، فمنع ترافد الايدي الكثيرة، وتناهض الاقدام الجمة.
____________
1. الخَصَاصة: الفقروالحاجة الشديدة، وهي مصدر خَصّ الرجل ـ من باب عَلِمَ ـ خَصَاصاً وخَصَاصة، وخصاصاء ـ بفتح الخاء في الجميع ـ إذا احتاج وافتقر، قال تعالى: (ويُؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خَصاصةٌ)
2. أهلك المالَ: بِذَلَهُ.
3. المُرافَدَةُ: المُعاوَنَة.
[ 24 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[
وهي كلمة جامعة له]
[فيها تسويغ قتال المخالف، والدعوة إلى طاعة الله، والترقي فيها لضمان الفوز]
وَلَعَمْرِي مَا عَلَيَّ مِنْ قِتَالِ مَنْ خَالَفَ الحَقَّ، وَخَابَطَ الغَيَّ(1)، مِنْ إِدْهَان(2) وَلاَ إِيهَان(3).
فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَفِرُّوا إِلَى اللهِ مِنَ اللهِ(4)، وَامْضُوا في الَّذِي نَهَجَهُ)لَكُمْ(5)، وَقُومُوا بِمَا عَصَبَهُ بِكُمْ(6)، فَعَلِيٌّ ضَامِنٌ لِفَلْجِكُمْ(7) آجِلاً، إِنْ لَمْ تُمنَحُوهُ عَاجِلاً.
____________
1. خابَطَ الغَيَّ: صارع الفساد، وأصل الخبْظ: السير في الطلام، وهذا التعبير أشد مبالغة من خَبَطَ في الغي، إذ جعله والغي متخابطَيْن يخبظ أحدهما في الاخر.
2. الادْهانُ: المنافَقَةُ والمصانَعَةُ، ولا تخلو من مخالفة الباطن للظاهر. 3. الايهان: مصدر أوْهَنْتُهُ، بمعنى أضعَفْته.
4. فِرّوا إلى الله من الله: اهربوا إلى رحمة الله من عذابه.
5. نَهَجَهُ لكم: أوْضَحَهُ وبَيّنَه.
6. عَصَبَهُ بكم ـ من باب ضرب ربطه بكم ـ أي: كلّفكم به، وألزمكم أداءه.
7. فَلْجكم: ظَفَركم وفَوْزكم.
[ 25 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
وقد تواترت عليه الاَخبار(1) باستيلاءِ أصحاب معاوية على البلاد، وقدم عليه عاملاه على اليمن ـ وهما عبيدالله بن العباس وسعيد بن نمران ـ لمّا غلب عليها بُسْرُ بن أبي أَرْطَاة، فقام(عليه السلام)إلى المنبر ضجراً بتثاقل أَصحابه عن الجهاد، ومخالفتهم له في الرأْي، وقال
مَا هِيَ إِلاَّ الكُوفَةُ، أقْبِضُهَا وَأَبْسُطُهَا(2)، إنْ لَمْ تَكُوني إِلاَّ أَنْتِ، تَهُبُّ أَعَاصِيرُك(3)، فَقَبَّحَكِ اللهُ!
وتمثّل:
لَعَمْرُ أَبِيكَ الخَيْرِ يَا عَمْرُوإِنَّني * عَلَى وَضَر(4) ـ مِنْ ذَا الاْنَاءِ ـ قَلِيلِ
ثم قال (عليه السلام):
أُنْبِئْتُ بُسْراً قَدِ اطَّلَعَ الَيمنَ(5)، وَإِنِّي وَاللهِ لاَظُنُّ هؤُلاءِ القَوْمَ سَيُدَالُونَ مِنْكُمْ(6) بِاجْتِماعِهمْ عَلَى بَاطِلِهمْ، وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ، وَبِمَعْصِيَتِكُمْ
____________
1. تواترت عليه الاخبار: ترَادَفَتْ وتواصَلَت.
2. أقْبضُها وأبْسُظُها: أي أتصرف فيها كما يتصرف صاحب الثوب في ثوبه يقبضه أويبسطه.
3. الاعاصير: جمع إعصار، وهي ريح تهب وتمتد من الارض نحو السماء كالعمود.
4. الوَضرُ ـ بالتحريك ـ: بقية الدّسم في الاِناء.
5. اطّلَعَ اليمنَ: غَشِيَها بجيشه وغزاها وأغار عليها.
6. سَيُدَالُونَ منكم: سيغلبونكم وتكون لهم الدولة بَدَلَكُمْ.

إِمَامَكُمْ في الحَقِّ، وَطَاعَتِهِمْ إِمَامَهُمْ في البَاطِلِ، وَبِأَدَائِهِمُ الاَْمَانَةَ إِلَى صَاحِبِهِمْ وَخِيَانَتِكُمْ، وَبِصَلاَحِهمْ في بِلاَدِهِمْ وَفَسَادِكُمْ، فَلَو ائْتَمَنْتُ أَحَدَكُمْ عَلَى قَعْب(1) لَخَشِيتُ أَنْ يَذْهَبَ بِعِلاَقَتِهِ(2).
اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ مَلِلْتُهُمْ وَمَلُّوني، وَسَئِمْتُهُمْ وَسَئِمُوني، فَأَبْدِلنِي بِهِمْ خَيْراً مِنْهُمْ، وأَبْدِلُهمْ بِي شَرَّاً مِنِّى، اللَّهُمَّ مِثْ قُلُوبَهُمْ(3) كَمَا يُمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ، أَمَاوَاللهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ لِي بِكُمْ أَلفَ فَارِس مِنْ بَنِي فِرَاسِ بْنِ غَنْم.
هُنَالِكَ، لَوْ دَعَوْتَ، أَتَاكَ مِنْهُمْ * فَوَارِسُ مِثْلُ أَرْمِيَةِ الحَمِيم
ثم نزل(عليه السلام) من المنبر.
قلتُ أنا: والارمية جمع رَميٍّ وهو: السحاب، والحميم في هذا الموضع: وقت الصيف، وإنما خصّ الشاعر سحاب الصيف بالذكر لانه أشد جفولاً، وَأسرع خُفوفاً(4)، لانه لا ماء فيه، وإنما يكون السحاب ثقيل السير لامتلائه بالماء، وذلك لا يكون في الاكثر إلا زمان الشتاء، وإنما أراد الشاعر وصفهم بالسرعة إذا دُعوا، والاغاثة إذا استغيثوا، والدليل على ذلك قوله: «هنالك، لو دعوت، أتاك منهم...».   












عشاق الامام علي عليه السلام loversoflmamali

loversoflmamali .حكم واقوال الامام علي عليه السلام .اقوال الامام علي .هل تعلم اقوال عن الحب .الهاتف انرويد. اقوال الامام علي عن الحب والصديق.دعاء كميل .القران الكريم. نهج البلاغة الامام علي .الامام الحسين. الامام العباس.

جميع الحقوق محفوظة © 2017 عشاق الامام علي عليه السلام loversoflmamali